اقترن اسمه بدعاوى التغيير فى ظل النظام السابق، وانضم بخاصة إلى الجمعية الوطنية للتغيير، وأطل على قرائه بآرائه المعارضة ولغته الأدبية الرشيقة من خلال مقالاته التى تفضح دون أن تخدش. وكان قبوله منصب نائب رئيس الوزراء فى حكومة أحمد شفيق السابقة فى لحظة حرجة من تاريخ الوطن محيرا للكثيرين، وهو الفقيه الدستورى والأستاذ الجامعى الذى حرص دائما على موقعه المستقل. ولذا قد يجد القارئ فى سيرة الدكتور يحيى الجمل «قصة حياة عادية» فرصة للتعرف على الرجل، وللإجابة عن بعض الأسئلة المحيرة، من خلال سرد أدبى يصفه هو نفسه ب«المحتشم». قد يجد القارئ الإجابة عن السؤال، أى قبول الفقيه الدستورى لمنصب نائب رئيس الوزراء الحالى، فى العودة لمذكراته وسيرته الذاتية نفسها «قصة حياة عادية»، تلك التى وصفها الناقد رجاء النقاش فى مقدمة الطبعة الثالثة الصادرة عن دار الشروق بأنها تمتاز بالبساطة. هذه البساطة الظاهرة فى رواية سيرة حياة رجل القانون تعكس يقينا العديد من ملامح شخصية الرجل ومواقفه المختلفة. ففى أحد فصول الكتاب، وتحديدا فى الجزء الثانى، تحت عنوان «حوار مع الدكتور محمود فوزى»، يتذكر فيه يحيى الجمل تفاصيل الحوار الذى دار بينه وبين نائب رئيس الجمهورية آنذاك رغم مرور أكثر من ربع قرن على هذا الحديث كما يحدد يحيى الجمل فى كتابه. يحكى الجمل بصراحة تحسب له عن مواجهة النائب له بسؤال واحد بسيط «كم مرة خلوت إلى نفسك وفكرت فى مشكلات هذا البلد globaly؟» فيطرق الجمل بعد أن بلع ريقه: «ولا مرة يا سيادة النائب ولا مرة استطعت أن أخلو فيها إلى نفسى لأفكر على هذا النحو الذى تقصد إليه سيادتك». فتعجب محمود فوزى من مرور سبعة أشهر كاملة على تولى الجمل الوزارة، وعدم تمكنه من الخلو إلى نفسه للتفكر بعمق فى أمور هذا البلد، وهو الذى توقع أن يجتمع الجمل مع أقرانه من أساتذة الجامعة والمهمومين بالهم العام ليكونوا برلمان من المفكرين ويقدموا استراتيجية لحل المشاكل العامة. وعلق فوزى مستنكرا من عدم إتاحة الفرصة لأصحاب العقول لتدبر شؤن البلاد: «وبقية الوقت تطفئون الحرائق؟» مشيرا إلى إطفاء الحرائق العارضة، وعدم مواجهة جذور المشكلات. ونعرف بعد ذلك أن يحيى الجمل لم يمكث فى هذه الوزارة أكثر من مائتى يوم، ويتبادر إلى الأذهان مباشرة أن المنصب الحالى ربما هو محاولة فى خريف العمر لرأب الصدع الذى كان، أو محاولة «فدائية» كما يصفها البعض بعد مرور أكثر من ثلاثين عاما للانخراط فى العمل العام والتأثير فيه. خاصة حين نقرأ التساؤلات والأفكار التى دارت فى ذهن أستاذ القانون بعد انتهاء مقابلته مع محمود فوزى، حول «ما المهمة الحقيقية للوزير؟ هل الوزير موظف أم الوزير رجل سياسى؟» ويجيب الجمل عن تساؤلاته بأنه «كان واضحا منذ قيام الثورة فى 23 يوليو 1952 أن فكرة الوزير السياسى تختفى لصالح مفهوم الوزير الموظف. وكان ذلك طبيعيا بعد أن اختفت الأحزاب السياسية التى يفترض أن تكون هى «الماعون» الذى يأتى منه الوزراء والوزارات». ثم يؤكد أنه لذلك أصبح اختيار الوزير يخضع لمعايير لا صلة لها بالسياسة ولا بالتفكير السياسى، وأن العلاقة الشخصية هى الأساس وفكرة الولاء هى المسيطرة على اختيار الوزراء. التصميم كأحد مفاتيح الشخصية تزخر سيرة يحيى الجمل الذاتية بالعديد من الحكايا التى تضىء محطات حياته المختلفة، يضم الجزء الأول نشأته الأولى فى أعماق الريف، ودراسته للحقوق، وعمله فى النيابة العامة فى الصعيد وفى فزان الليبية وفى بلدان عربية أخرى. ويربط بين فصول هذا الكتاب المختلفة هذا الخيط الحديدى من التصميم والإرادة اللذين اتصف بهما الكاتب، حيث كان حلم النائب أن يكون استاذا جامعيا وحال خطأ ما فى احتساب درجاته بالامتحان الشفهى دون تحقيق هذا الحلم. فعمل بمكتب للمحاماة، وسرعان ما تم تعيينه وكيلا للنائب العام، وكان بمقدوره التدرج فى مناصب القضاء المختلفة، لكنه أبدا لم يرض أن يضع حلمه جانبا. وهذا ما أشاد به الناقد رجاء النقاش فى مقدمته للجزء الأول فى الطبعة الثانية للكتاب، الذى لمس أن «الحياة العادية» التى يرويها الجمل عمادها قوة الإرادة والتصميم الهادئ المثابر، حيث يصفه النقاش بأنه «ظل يبحث ويترقب الفرص والظروف حتى يمسك بخيط «حبه الضائع» منه حتى الآن، أى أنه لم يسكر بالنجاح الذى هو فيه، الذى يمكن أن يكون موضع حسد للآخرين». وكان عمله كخبير قانونى فى السعودية من أجل توفير تكاليف رحلته لأوروبا ليجمع المادة اللازمة لرسالة الدكتوراه التى حصل عليها فى 1952 من جامعة القاهرة بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى. ثم يستعرض فى الجزء الثانى الصراعات فى الوسط الأكاديمى، وتجربته كمستشار ثقافى فى باريس وشغله منصب وزير فى مرحلة حكم السادات حتى نهاية المرحلة مع نهاية الكتاب. الابتعاد عن ضمير المتكلم وبالاضافة إلى هذا الخط الذى يربط الحبكة إذا جاز التعبير أى سيرة النجاح والاصرار، هناك خطوط أخرى موازية له مثل الهم السياسى والانشغال بقضية الديمقراطية، حيث نتعرف من خلال صفحات «قصة حياة عادية» على بدايات تفتح وعى الطفل السياسى وتشكل روحه النقدية. مثل واقعة مقابلته لمشرف المدرسة، ولم يكن قد تجاوز الصف الأول الثانوى، ثم لناظر المدرسة المعروف برباطة جأشه بل وقسوته ليبلغه بضيقه هو وزملاؤه بمدرس اللغة الإنجليزية، وعدم قدرتهم على الفهم من المدرس رغم أن الفصل الذى يمثله «الفتى» من فصول المتفوقين جميعا. ثم بداية اشتراكه فى مظاهرات الطلبة، عن طريق اللجنة الأدبية التى انتخب رئيسا لها فى 1946 إبان حكومة اسماعيل صدقى، مما يعكس تداخل الهم السياسى مع المناحى الاجتماعية والأدبية. وفى حين انخرط شقيقه سعيد فى جمعية الإخوان المسلمين، «اختار الفتى طريقا آخر للعمل العام» كما يروى يحيى الجمل عن نفسه، حيث انضم للحزب الوطنى «الوطنى» كما يوضح فى مقدمة الكتاب للتدليل على أن هناك حزبا ذا أهداف وطنية يختلف عن الحزب الذى يحمل نفس الاسم والمعروف للجميع الذى كان يطالب بوحدة واستقلال مصر والسودان ويرفض المفاوضة مع الانجليز إلا بعد الجلاء. غير أنه عبر كل هذه اللمحات، يحكى يحيى الجمل عن نفسه بضمير الغائب، مشيرا إلى نفسه بال«فتى» أو «فتانا» أو «صاحبنا»، وهى صيغة استخدمها طه حسين من قبل فى رائعته «الأيام»، إلا أنها كانت فى بدايات كتابة السيرة الذاتية، كنوع أدبى جديد فى العالم العربى، فكان ضمير الغائب محاولة للتخفى وراء شخصية تبعد عن الراوى وتخفف من وطأة التعرى وكشف الذات أمام القارئ. كما استخدمها كتاب آخرون لأنها تتيح نوعا من الحياد والموضوعية فى العلاقة بالأحداث، وهو ما يتفق هنا مع سيرة يحيى الجمل حيث يتخذ الراوى مسافة تبعده عن الشخصية الرئيسية من خلال قوله «الفتى»، وتسمح له بالحديث عن تفوقه ونبوغه، من خلال العديد من الأمثلة، حين دعاه مدرس اللغة العربية لإلقاء موضوع الانشاء الذى كتبه أمام زملائه، وتفوقه الدائم فى مراحل التعليم المختلفة، وذكرياته فى النيابة بالصعيد، أو الصداقة التى جمعته بالسيدة الأمريكية فى ليبيا. غير أنه فى رواية هذه الذكريات يظل حكاء فريدا من حيث اللغة والسرد، لكنه لا يصف مشاعره ولا يكشف عن جرح ما، ولا يكشف عن «جوانياته» وعالمه الداخلى كما يفعل العديد من كتاب السيرة الذاتية. ولذا وصفه الناقد الدكتور صلاح فضل بأنه «تفادى بحصافته القانونية التى أخمدت شططه الأدبى التعرض لدقائق حياته الشخصية، وهى مفعمة بما يكتب، مكتفيا بالبوح الخجول بالنذر اليسير من قصص عشقه الجموح، أصبحت الصورة الاجتماعية أغلى لديه من المشهد الأدبى الصادق...». وقد يكون ذلك أيضا ما جعل يحيى الجمل نفسه يصنف كتابه فى مقدمة الطبعة الثالثة بأنه نوع من السيرة الذاتية أو أدب الاعتراف «المحتشم». ويجعلنا نتوقع من الكاتب ربما جزءا ثالثا أقل محافظة يستكمل فيه شهادته من بعد حادث المنصة الشهير فى 1981 الذى يختتم به سيرته الذاتية.