«أمة أتت فى فجر الإنسانية بمعجزة الأهرام لن تعجز عن الإتيان بمعجزة أخرى، أو معجزات، أمة يزعمون أنها ميتة منذ قرون، ولا يرون قلبها العظيم بارزا نحو السماء من بين رمال الجيزة، لقد صنعت مصر قلبها بيده ليعيش إلى الأبد، لعل هذا الأثرى الذى يحيا فى الماضى، كان يرى مستقبل مصر أكثر من أى إنسان، فى شهر مارس بدأ الربيع، فصل الخلق والبعث والحياة، اخضرت الأشجار بورق جديد وحبلت وحملت أغصانها الأثمار، وكذلك مصر أيضا، قد حبلت وحملت فى بطنها مولودا هائلا، وها هى مصر التى نامت قرونا تنهض على أقدامها فى يوم واحد، إنها كانت تنتظر، كما قال الفرنسى، تنتظر ابنها المعبود، رمز آلامها وآمالها المدفونة يبعث من جديد، وبعث هذا المعبود من صلب الفلاح». لقد صدق الأثرى الفرنسى: لم يكن مفتش الرى الإنجليزى فى رواية «عودة الروح» للرائع توفيق الحكيم مقتنعا بأن هذا سيحدث، بل كان تقديره للشعب المصرى أنه جاهل وكسول وميت. المشهد تذكره د.عماد أبو غازى وزير الثقافة فى نهاية حواره مع «الشروق»، عشية حلفه اليمين أمام المشير طنطاوى. تزايد هدءوه، وفرضت السكينة التى لاحظتها فى جلسته أثناء تذكره هذا المشهد نفسه على بداية صوغ الحوار، الذى جاء نهاية ليوم ملىء بالإرهاق، والشد العصبى، ورنات المحمول التى كانت تأتى بين دقيقة وأخرى. كنا نتحدث عن رؤيته العامة لثورة يناير، قال: «كتب توفيق الحكيم هذه الرواية أثناء الانقلاب الدستورى لإسماعيل صدقى سنة 1930، عندما تصور أنه حقق مشروعه هو والملك فؤاد فى إقصاء المعارضة، وكان الحكيم وقتها يريد توصيل رسالة معينة، وبالفعل لم تمر 5 سنوات حتى قامت ثورة الشباب، التى أطاحت ببقايا الانقلاب الدستورى، وأعادت الانتخابات البرلمانية، ثم جاءت معاهدة 1936 التى أحدثت نقلة كبيرة فى طريق الاستقلال المصرى». ولكن مهلا، قلنا إن هذه كانت نهاية الحوار، أما البداية فكانت البداية بسؤاله عما أشيع حول أنه رُشح لتولى وزارة الثقافة فى حكومة الدكتور أحمد شفيق ورفضه لهذا الترشيح، فأكد أن هذا لم يحدث. ●ألم ينتابك القلق تولى المسئولية فى ظل هذه المرحلة الحرجة بتعدد أوجهها؟ بالفعل هى مرحلة حرجة كما قلت، لكننى فى الوقت نفسه لم أتعود الهرب من أى تكليف يأتينى فى عملى الرسمى، لأننا نعيش وقتا لا يصح فيه الهرب من المسئولية أو التخلى عنها، خصوصا وأننى أتصور وجود قطاع معقول من المثقفين الراضين عن هذا الاختيار، ولا أستطيع أن أخذلهم، أو أخذل البلد التى ربتنى، وعلمتنى، وأوصلتنى لما أنا فيه، وكل ما أتمناه أن يقدرنى الله، وأكون عند حسن ظن من تحمسوا لاختيارى من المثقفين، وحسن ظن رئيس الحكومة الذى اختارنى، ولكى يحدث هذا لا بد لى من العمل معهم وبهم وليس وحدى. ●وماذا عن المجلس الأعلى للثقافة، هل يوجد فى ذهنك شخص معين لتوليه؟. إلى الآن، لا يوجد أحد بعينه، والمسألة لا بد وأن تتم دون عجلة، وليس فقط اختيار أمين عام المجلس الأعلى للثقافة، فهناك أكثر من موقع بالوزارة يحتاج إلى قرارات. ●هل تعنى أن الفترة المقبلة ستشهد تغييرا فى قيادات الوزارة؟. لم أقصد هذا، بل أعنى أن هناك أماكن خالية لا بد من النظر إليها، فمثلا الهيئة العامة للكتاب، يقوم عليها حاليا د.صابر عرب رئيس دار الكتب، بجانب عمله، فلابد من تخصيص شخص لرئاستها، وكذلك قطاع مكتب الوزير، إضافة بالطبع إلى المجلس، وهذه الأمور ستتحدد قريبا. ●قلت أكثر من مرة إن وزارة الثقافة لن تواجه أزمة مالية بفصل الآثار عنها، رغم أن ميزانية صندوق التنمية الثقافية تأتى بالأساس من أرباح الآثار، كيف؟. بالفعل، القرار الجمهورى بإنشاء صندوق التنمية الثقافية، ينص على تخصيص 10 بالمائة من أرباحه بالفعل، وهذا لن يتغير، كما أن هذه ال10 بالمائة ليست فقط هى ميزانية الصندوق. ●ما هى أولويات وزارة الثقافة فى الفترة المقبلة؟. هناك تصورات لهيكلة الوزارة فى المرحلة الانتقالية، منها مثلا التصور المطروح من بعض المثقفين لتحويل المجلس الأعلى للثقافة إلى كيان مستقل لا يتبع الوزارة.. ●وهل تتفق مع هذه الفكرة؟ أتفق معها جدا، ويا حبذا لو بات المجلس أشبه ببرلمان ثقافى يتم اختيار إدارته ولجانه بالانتخاب، وبالفعل هناك عدد من المثقفين يدرسون بلورة هذه المسألة، وكيفية تحقيقها. ●وماذا عن باقى الأولويات؟. هناك أيضا تشريعات العمل الثقافى، لدينا تشريعات تحتاج إلى تعديل، مثل قانون الرقابة على المصنفات، وقانون الوثائق، بالإضافة إلى تطوير الصناعات الثقافية، فلدى تصور دائم أن لدينا قوة أساسية، ومميزات تنافسية تتمثل صناعتنا الثقافية، وهذه الصناعات تحتاج لكى تكون صناعات منافسة فى المحيط الإقليمى والدولى إلى سياسة ضريبية وجمركية تساعد فى دعمها. من الأولويات التى نفكر فيها أيضا، التعامل مع قطاعات من خارج وزارة الثقافة، وهذا كان يحدث منذ البداية، من خلال صندوق التنمية الثقافية، والمجلس الأعلى للثقافة وجهاز التنسيق الحضارى وهيئة قصور الثقافة، ومراكز الإبداع وغيرها، ولكن نريد تطويره وكيفية تفعيله بشكل أكبر، كما ستتم دراسة تقييم نتاج ما حدث بثورة 25 يناير ثقافيا، والتعاون بين وزارات وأجهزة الدولة المختلفة فى مجال الثقافة، كالتنسيق بين الثقافة والتربية والتعليم والجامعات والإعلام، بحيث يتم نقل الخدمة الثقافية لمجال أوسع، فعمل نشاطات ثقافية فى الشارع والجامعات، وتنظيم رحلات لطلبة المدارس إلى المتاحف الفنية، سوف يساعد فى خلق حالة ثقافية ومناخ أكثر ملاءمة للمستقبل، وخلق حالة من الفهم للهوية الوطنية، وتنمية قيم المواطنة واحترام حقوق الإنسان، والديمقراطية والتعددية والتنوير. ●كيف سيتم التعامل مع المطالب الفئوية؟. أى تظلم أو شكوى أو ضيق سوف تتم دراسته، بعضها من الممكن أن يكون صحيحا، وهذا سيعالج تماما، وما ليس له أساس من الصحة سوف يناقش مع صاحبه، وهناك نموذج استمارة كان قد اقترح عمله المهندس محمد الصاوى فى الوزارة السابقة، لكى يقدمه أى شخص له شكوى مدعوما بالمستندات، على أن يتم الرد عليه خلال شهر من تقديمه، وفى كل الأحوال سوف نرد عليه، سواء بالقبول والحل الفورى، أو بالقبول مع تأجيل تنفيذه، أو بالرفض مع تقديم مبررات الرفض، وأيضا كان د.جابر عصفور أثناء توليه الوزارة قد أصدر قرارا بعمل لجان للتظلمات، يكونها الموظفون أنفسهم، وعلى رأس المطالب الفئوية التى سنستجيب لها مسألة التفاوت الكبير فى الأجور الإضافية والمكافآت. بالطبع لا بد وأنه سيكون هناك تفاوت، فأنت لا تستطيع مساواة شخص يعمل 12 ساعة بآخر يعمل 5 ساعات، ولكن سوف يتم تضييق هذا التفاوت ليصبح معقولا، ولكن ما أتمناه أن يواظب الجميع على عمله لكى نستطيع تسيير الحركة وتلبية كل المطالب. ●على ذكر الدكتور جابر عصفور، كان يتردد عند البعض تدخله فى إدارة المجلس الأعلى للثقافة، باعتبار ما لك به من علاقة قديمة، وهناك من يخشى هذه المسألة؟. هذا غير صحيح على الإطلاق، الدكتور جابر عصفور عضو فى المجلس الأعلى للثقافة، وتدخله لا يتجاوز هذه المنطقة مثله مثل باقى الأعضاء، ومسألة أنه كان يدير المجلس من خلف ستار هذه ليس لها أى أساس من الصحة، لا فى فترة أمانتى ولا فى فترة أمانة الدكتور على أبو شادى، والدليل أن كل مرحلة من مراحل العمل كانت لها سمات مختلفة، بالطبع هناك قواعد وضعها الدكتور عصفور، ولكن كل أمين عام له طريقته الخاصة فى الإدارة. ●نعلم أنك تتعرض لهجوم من أصحاب التيار الإسلامى، فماذا عن هذه الأزمة؟. لا توجد عندى أزمة مع أى شخص أو جهة أو فكر، كل من يدعو للحوار لا أستطيع منعه ولا يحق لى الحجر على أفكاره، وأؤمن أننى طالما قبلت العمل بمنصب عام فعلى قبول النقد، فمن حق أى أحد مهاجمة أى شخصية عامة أو تعمل بالعمل العام، والفترة السابقة على الثورة، عندما كنت أمينا للمجلس الأعلى للثقافة، شهدت مشاركة العديد من الأنشطة التى كان يقدمها من ينتمون إلى التيار الإسلامى، وكنا نوافق على استضافتها. ●هل هناك أى رؤية جديدة للرقابة على النشر بوزارة الثقافة؟ هناك الرقابة على المطبوعات الأجنبية، التى تتبع وزارة الإعلام، وهذه فى تصورى يجب إلغاؤها، أما وزارة الثقافة فليس بها أى رقابة على النشر. ●ولكن نعرف أن هناك كتبا منعت من النشر بالهيئة العام لقصور الثقافة لأسباب دينية أو أخلاقية؟.. هذه ليست رقابة، فأى ناشر فى العالم له سياسات ومعايير تناسبه فيما يصلح للنشر وما لا يصلح، ومن الطبيعى أن تكون دور النشر الخاصة أكثر تحررا فى هذه المنطقة، لأنك كناشر حكومى، تساءل أمام جهات عديدة وتساءل أمام المجتمع لأنك تعمل من المال العام، بمعنى أن أنا شخصيا بالطبع مع حرية الكتابة والرأى والإبداع، لكن هناك مواءمات لا بد من وضعها فى الاعتبار. ●ما رأيك فى اقتراحات البعض بتوحيد مؤسسات النشر فى الوزارة؟. فى العموم، هيكلة الوزارة كلها مطروحة للمناقشة داخل الجماعة الثقافية المصرية، لكننى لا أتفق مع الدمج، لأن كل مؤسسة من مؤسسات النشر بالوزارة تمارس النشر لها طابع خاص، فهيئة الكتاب وهى الناشر الرئيسى فى الوزارة وتنشر فى كل المجالات، بينما تجد المجلس ينشر فقط ما يرتبط بمجالاته، مثل التفرغ والكتاب الأول وأبحاث المؤتمرات، فيما تجد النشر بهيئة قصور الثقافة مدعوما بشكل كبير فسعر الكتاب فيها لا يتجاوز ال6 جنيهات، وتوجه نشاطها لبيوت الثقافة المختلفة فى الأقاليم، ونوادى الأدب وغيرها، ولكن كل هذا لا يمنع أن تناقش الجماعة الثقافية المصرية أمرا كهذا إذا كانت تريد. ●هل ستستمر فى الكتابة الصحفية بعد توليك الوزارة؟. للأسف لا، لأنه لا يصح أن يعمل الوزير فى أى مجال بأجر، وأنا كنت أكتب مقالات فى الصحف بمقابل. وتأثرت نبرته مضيفا: ليس هذا فقط بل إننى أيضا اعتذرت عن عدم التدريس بالجامعة، وهو أمر كنت أحبه جدا، ولكننى احتراما لطلبتى لا أريد أن أخذلهم فى عدم المواظبة على حضور المحاضرات بسبب ضيق الوقت فى الوزارة. أيضا كنت أقوم بعمل استشارى فى مكتبة الإسكندرية، بالإشراف على مشروع سلسلة مصر المعاصرة، ولكن بمجرد حلف اليمين اعتذرت للمكتبة. ●أخيرا ما مدى رضاك عما حققته فى المجلس الأعلى للثقافة؟. راضٍ تماما، ولكننى كنت أطمح للأفضل، وهذه هى طبيعتى طوال الوقت. وكانت خاتمة الحوار، لوحة أدبية جميلة خطها منذ سنوات عديدة توفيق الحكيم، بين مفتش رى انجليزى وعالم آثار فرنسى، خاتمة أصر أبوغازى على الاتفاق معها طوال الوقت، رافضا لإدانة الشباب من قِبل جيله والأجيال التى تسبقه، واتهامهم بأنهم سطحى وتافه، لأنه لو كانت هذه الاتهامات صحيحة فسوف تكون الأمور «ماشية بالعكس»، فالطبيعى أن يكون الجديد أفضل، وقد «تأتى صفعة على وجه مواطن بسيط بقلب نظام حكم كامل كما حدث فى تونس»، وانتهى حوارى مع وزير الثقافة على أنه لا يمكن انتظار رد فعل الشعوب بالمنطق الثابت، «ولكن المتحول فيها، والجامح، وغير المتوقع، أكبر بكثير».