يواصل الأستاذ عزيز صادق حديثه: (4) إنه فيما عدا الأحوال الشخصية، فإن أحكام الشريعة المسيحية لا تصلح إطلاقاً لأن تكون أحكام قوانين وضعية ولا حتى فى الفاتيكان نفسها، بل ولا فى المقر البابوى لبابا الإسكندرية نفسه، ولا أيضاً فى أعماق الأديرة الضاربة فى أعماق الصحراء، فلا يمكن أن نضع قانونا وضعيًا فى أى دولة يسمح لمن ضرب بأن يحول لضاربه خده الآخر ليضربه مرة أخرى! ولا يمكن أن نضع قانوناً وضعيًا يدعو الناس لئلا يفكروا فيما يأكلون ولا ما يشربون ولا ما يلبسون، وأن يطلبوا ملكوت الله وبره فهنا كلها تزداد لهم!، ولا يمكن أن نضع قانوناً يسمح بالمغفرة للقاتل والسارق والزانى والزانية والمعتدى والنصاب والمحتال، عملاً بقول السيد المسيح: «لا تدينوا لكى لا تدانوا»، أو عملاً بقوله للزانية: «هل أدانك أحد ولا أنا أيضاً أدينك». إذن فإذا سلمنا بأن المسيحية لم تضع أى أحكام وقوانين وضعية وأن أحكامها الروحية لا تصلح لأن تكون أحكاما تنظيمية على الأرض، وإذا سلمنا بأن المسيح اعترف بذلك شخصياً فى قوله: «مملكتى ليست فى هذا العالم»، وأنه أحال هذا الأمر إلى الحكام فى قوله: «أعطوا ما لقيصر لقيصر»، بل إنه قَبِل بأن يحاكم أمام الحاكم «بيلاطس البنطى»، ويعلمنا الإنجيل أن الحاكم كان عادلاً حتى إنه قال: «إنى برىء من دم هذا الرجل». وغسل يديه. نقول إننا إذا سلمنا بكل هذا، فأى شريعة نطلب نحن أقباط مصر أن تسرى فى مصر، إذا كنا نرفض الشريعة الإسلامية كشريعة دين ودنيا؟ هل ننادى بنفس شريعة موسى التى قال عنها المسيح عشرات المرات إن «موسى ما قال هذا أو صنع إلا لقساوة قلوبكم»، فهل نريد أن نعود لعصر اليهود بقساوة قلوبهم وغلاظة رقابهم؟ ثم فيم سنختلف حول أحكام الشريعة الإسلامية؟ يتساءل صادق عزيز ثم يجيب: (5) هل فى قواعد الإرث والتوزيع، وللذكر مثل حظ الأنثيين؟، إن المسيحية لم تأت بأى أحكام فى هذا الموضوع، فإذا بحثنا عن أحكام تتناسب والدين المسيحى فلن نجد أفضل من الشريعة الإسلامية، فالمسيح أيضاً فضّل الذكر على الأنثى، بدليل أنه أسلم أمه إلى «يوحنا» ليرعاها، ولم يتركها حتى لأختها مريم، وبدليل أن المسيح أقام كنيسة على صخرة «بطرس»، ونشر دعوته على معجزات (11 تلميذاً ولسان 70 تلميذاً آخرين). وقد يقال إن الإسلام لا يحترم رغبة الموتى فى الوصية، وأن «الوصية» إذا تعارضت مع أحكام الشريعة الإسلامية لا يؤخذ بها، وهذا هو ما فعله السيد المسيح تمامًا، فهو لم يحترم أبداً رغبة ميت، بل إنه قال: «دعوا الموتى يدفنون موتاهم»، ورفض أن يتخلف عنه تلامذته ليشاركوا فى دفن ميت!، أكثر من ذلك نرى أن المسيح حين أحيا الموتى وأقامهم من القبور لم يقمهم حباً فى الموتى، ولكن من أجل إيمان أقاربهم وأهلهم «الأحياء»، والإنجيل يعطى عشرات الأمثلة على ذلك. وقد يقال إن حد السرقة فى الإسلام هو قطع اليد، وأتساءل وهل هذا يتعارض مع المسيحية؟ انظروا إلى قول السيد المسيح: «إذا أعثرتك يدك فاقطعها، فإن تدخل ملكوت السموات بيد واحدة خير من أن يُلْقَى بجسدك كله فى النار». الأمثلة كثيرة.. ومن يقرأ الإنجيل ويقرأ القرآن والتوراة فسيجد فيها لنفسه حياة، وكلها تؤدى إلى طريق واحد.. طريق الصواب والثواب. فليثبت الأقباط إن كانوا لا يعلمون (كتاب الوحدة الوطنية بديلاً عن الفتنة الطائفية، تأليف الأستاذ جمال بدوى، من ص 293-298). ■ ■ ■ ومن أكثر نماذج الخطاب القبطى تمثيلاً للمودة ما كتبه الأب يوحنا قلتة، نائب البطريرك الكاثوليكى، عن الرسول والإسلام بمناسبة رمضان بعنوان: «رمضان كريم.. تأمل مسيحى». وجاء فى هذا المقال: «أحاول أن أخترق الحاجز التاريخى، حاجز الصمت والخوف، حاجز الجهل وثماره التعصب والخصام، أغامر لكى أعبر فوق أوهام لا تمت للحقيقة بصلة سكنت فى وعى أو فى لا وعى الشرق وفى الغرب، واستوطنت أعماقه، ولا يزال وجدان البشر، شرقاً وغرباً، مزدحماً بما يشبه صراع العواطف، وممزقاً بأصوات تناقلها التاريخ عبر القرون الطوال، وياللأحمال الثقال من المغالطات، والتهم الباطلة، والتفسيرات الغبية القاصرة وزيف الشروحات والتحامل على الإنسان الآخر، أحمال ناءت بها عقول المفكرين، وأجهدت ضمائر ذوى الإرادة الصالحة. ومازال القلق، والخوف، والحساسية والتحفز السلبى أمورًا تحكم رؤية المسلم للمسيحى، ورؤية المسيحى للمسلم، وبنوع خاص مازالت شخصية «الإنسان العظيم» محمد بن عبدالله نبى الإسلام ورسول الحضارة العربية مازالت أكبر من اكتشاف جوانب عظمتها. أتجاسر وأنا المسيحى العربى أن أقترب فى تهيب وفى خشوع من شخصية «الرسول العربى» لا أتمنى أن يظن بى أحد أنى أتنكر لإيمانى وعقيدتى، أو يلصق بى تهمة النفاق والعياذ بالله، والله – سبحانه وتعالى – فاحص القلوب والضمائر الذى لا تأخذه سنة من النوم، فكلماتى ليست إلا دعوة إلى الحب والمودة والتفاهم وإقامة حوار إنسانى رفيع بين الإنسان والإنسان المختلف عنه. من أعماق الصحراء العربية الصامتة منذ مئات القرون، فوق الرمال الحارقة، والجفاف القاتل والظمأ الحاد، والجوع الذى يدفع بالقبائل إلى التنقل والتقاتل، من قلب قرية كبيرة، أو مدينة صغيرة أقيمت فى قلب الصحراء، أحاطت بها الأساطير واختلطت بالتاريخ والسير. من أعماق الصمت خرج صوت يؤذن: لا إله إلا الله محمد رسول الله، حدث ذلك فى بداية القرن السابع الميلادى، ولد الميلاد الهجرى، كانت الصرخة قوية، زلزلت عرش كسرى وعرش قيصر، والتفت العالم الفارسى، والعالم البيزنطى، الشرق والغرب، فى غير اكتراث، لم تنصت فارس إلى صوت مقبل من القبائل العربية المتشرذمة، لم تهتم بيزنطة فقد أتتها قبل ذلك أصوات كثيرة من عمق الصحراء العربية، وعرفت كيف تكبتها وتمحو أصداءها. لم يسمع الشرق أو الغرب، الشمال أو الجنوب عن محمد إلا حين دقت وفوده أبواب الشعوب والملوك لتعلن لهم: جاء دين جديد يقول إنه امتداد وتكملة لمن سبقه، عقيدته أن محمد بن عبدالله بعث للناس نبياً، يحمل ديناً جديداً، ويحمل وحياً منزلاً، لم يكن الأمر مفاجأة، فقد تعودت المنطقة العربية على ظهور مدعين وأنبياء كذبة، لم يكن الأمر يثير هماً للغرب المطحون تحت حكم أباطرة بيزنطة، أو للشرق المطحون تحت صدمات التمزق الدينى، وأعتقد أن هذه الشخصية النبوية لم تزل مجهولة شرقاً وغرباً، بل لعلها لم تزل مجهولة لدى المسلمين أنفسهم، فكم بالأحرى عند غير المسلمين. محمد بن عبدالله - صلى الله عليه وسلم - من أنت يا ذا المهابة والجلال بالنسبة لى أنا المسيحى؟ من أنت يا صانع حضارة نقلت البشرية من عالم إلى عالم وأرست قواعد للدول والشعوب؟ من أنت أيها الآتى من الصحراء من قلب الأمية والجهل؟ من القاع، من سخط الشعوب القديمة، من أسرة فقدت الوالد، من قبيلة عبدت المال والتجارة. من أنت يا إنسان؟ يا رجل؟ يا رسول؟ أنا مسيحى أؤمن بأن المسيح كلمة الله – الذاتية الناطقة – هو الوحى الكامل، وكمال الوحى، تعلمت هذا وملأ وجدانى، لكن أمام «إنسانيتك» أمام رسالتك، أمام كتاب ربك الذى حملته، أمام تاريخك، أمام ذلك كله لا أجد حرجاً، أو قلقاً، أن أحنى الرأس إجلالاً واحتراماً، حباً وانبهارًا، لا يا سيدى، لا ينكر من فضلك وسموك إلا جاحد أو جاهل، دعنى يا سيدى فى شهر رمضان، أرفع إلى مقامك السامى، حباً وإكراماً، لأنك إنسان، حملت كل سمو إنسانية الإنسان، لأنك رسول بعثت لتنقل المجتمع من حال إلى حال، لأنك صاحب حضارة، لأنك قدوة للحكم، للمنتصر وللمنهزم، للقوى والضعيف، لأنك إمام المؤمنين بالله الواحد وباليوم الآخر. سيدى نبى الإسلام، رسول الحضارة، تقبل حباً وإجلالاً من مسيحى فى الشهر المبارك».. انتهى. فإذا كان هذا الخطاب يعد تمثيلاً صادقاً للخطاب القبطى الذى يتسم بالمحبة والود، فإن الآثار التى أثارها تبرز أن روح الخصومة التى لم تظهر وقتئذ إلى الخطاب القبطى كانت كافية، والله إن هذا الخطاب أثار هجومًا كاسحًا عليه. بدأ الهجوم كاسحًا على المقال وعلى الدكتور الأنبا يوحنا قلتة فى قبرص، حيث كان يعقد مجلس كنائس الشرق الأوسط الذى كان يحضره هو أيضاً.. وهناك قام أحد أساقفة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية وقيادة كبيرة تتولى منصباً مهماً.. بتصوير المقال عشرات المرات وتوزيعه على الحاضرين.. ثم قام بإعداد بيان يطلب فيه عزل الأنبا يوحنا فى صيغة تصفه ب«الخارج على المسيحية»، إلا أنه فشل فى إقناع أى من الأساقفة الحاضرين فى التوقيع على مثل هذا البيان.. الذى أعاد إلى أذهانهم عصور الانشقاق الأول فى المسيحية، التى لاتزال تعانى منها المسيحية حتى الآن.