على مدى نصف قرن ونيف، لم تتوقف الكاتبة والأديبة د.نوال السعداوي عن إثارة الجدل، ما بين قلة تناصر مواقفها، وأكثرية ترى أن ما تدعو إليه هو محض جنون، فساد وإفساد للمجتمع. مفكرة من طراز نادر، حياتها سلسلة متصلة من المعارك، كتبت في الصحف، ألفت الكتب، حاضرت في جامعات العالم، وأثارت الصخب في مختلف المؤتمرات والندوات التي مرت بها.. تعرضت للسجن، للنفي، أُهدر دمها، اتهمت أمام المحكمة بازدراء الأديان، ورفع عليها أحد الإسلاميين قضية الحسبة للتفريق بينها وبين زوجها. كل الأسلحة الدينية والاجتماعية والسياسية أُشهرت بوجهها، لكنها لم تستسلم ولم تنهزم حتى الآن، ولم ينفد الحبر من قلمها رغم تجاوزها سن الثمانين.. تدور مؤلفاتها حول فكرة أساسية هي الربط بين تحرير المرأة من ناحية، وتحرير الوطن من ناحية أخرى. فالنظام الإمبريالي الاستبدادي العالمي منذ عصور "العبودية" القديمة وحتى عصر "الاستغلال" الحديث، يعمل على قهر الشعوب النامية، وإبقائها تحت وطأة الجهل والفقر حتى لا تتمرد وتصبح خطراً عليها. تماماً كما يعمل النظام الأسري الأبوي الذكوري على قهر المرأة، وسلبها حقوقها، واستغلالها تحت مختلف الدعاوى، وعلى جميع الأصعدة. السياسة الدولية غير منفصلة عن السياسة المحلية، النظام الرأسمالى الاقتصادى العالمى غير منفصل عن النظام الأبوى العائلى، الأسرة هى الحجر الأساسى لهذا النظام الطبقى الأبوى عالميا وداخل الدولة.. العدل والمنطق.. كلمتان ترددهما نوال السعداوي بكثرة، ترى أن كل ماعداهما أوهام وأباطيل، بمافي ذلك "القيم" و"التقاليد" التي تتغير بتغير الزمان والمكان والأنظمة الحاكمة. فالعدل أهم من ثوابت المجتمع، العدل يقتضي المساواة الكاملة وغير المشروطة بين المرأة والرجل، العدل يقتضي أن تكون الكفاءة هي معيار التمييز بين الناس، وليس النوع كما هو قائم. العدل يجب أن يبدأ من داخل الأسرة، بل من داخل كل إنسان.. ويسمو فوق أي اعتبار آخر. خاضت نوال السعداوي العديد من المعارك من أجل قضايا عادلة، أهمها قضية التمييز ضد المرأة، أو ما يسمى ب "النظرة الاجتماعية السلبية" للمرأة، فالمرأة الشرقية تعتبر "ناقصة عقل ودين، عورة، مصدر للفتن والشرور....". كما أن التربية الاجتماعية للمرأة غالباً توجهها نحو أن: "مكانكِ الطبيعي في البيت، خروجكِ ممنوع إلا بإذن زوجكِ ولصالح الأسرة، يمكنه أن يفرض عليكِ الاستقالة من عملكِ، وقد يطردك بكلمة الطلاق يرددها مع الهواء، لا تعترضي إن طلقكِ دون سبب، وإن جمع بينكِ وبين نساء أخريات فهذا ما أحله الله...". هذه التربية الاجتماعية ينتج عنها بالضرورة أن تلغي المرأة نفسها أمام الرجل، تتخلص من شخصيتها لتحصل على الخضوع والطاعة، وتحصل معهما على الأمن والحماية، ورضا الرجل. ولنوال السعداوي معركة مع الدكتاتورية كنظام حياة، فالديمقراطية لابد أن تبدأ في البيت، الأب الدكتاتور ينتج أسرة من العبيد، الأسرة المقهورة هي نواة الشعب المقهور، والديمقراطية السياسية لا يمكن أن تتحقق دون ديمقراطية اجتماعية ثقافية تعليمية، تعيد للمرأة حقوقها المهدورة وكرامتها واستقلالها، ديمقراطية تحترم عقل المرأة، ولا تراه أقل شأناً من عقل الرجل. كما تم الفصل بين حقوق الإنسان وحقوق المرأة، فالمرأة لم تعد إنساناً، بل زوجة وأم واجبها خدمة الزوج والأطفال، وإن خرجت للعمل (حتى لو كانت وزيرة) فهي تعمل لمساعدة زوجها في الإنفاق، وليس لأن العمل حقها كإنسانة كاملة الأهلية. ومن ناحية أخرى فإن خروج المرأة للعمل تحت سيطرة الرجل، وفي ظل الأوضاع الحالية، لا يعني إلا المزيد من الاستغلال للمرأة، فالمرأة العاملة تعمل خارج المنزل وداخله، مما يسبب لها الإرهاق النفسي والجسدي، ويؤدي بها إلى الكثير من الأمراض والمشاكل التي تحول بينها وبين الحياة الصحية السليمة، الأمر الذي يستغله دعاة "إعادة المرأة للمنزل" لتبرير دعواهم، متناسين أن هذا الوضع ناتج عن تجاهل الرجل لدوره داخل المنزل وما يقتضيه من تحمل الطرفين للمسئولية بنفس القدر. وللإنصاف، لا يمكن تجاهل الجانب الآخر من فكر نوال السعداوي، الذي يغلب عليه الغلوّ والتطرف، وربما هذا نابع من شخصيتها التي تقدس التمرد والخروج عن المألوف وترى: "أن من يبقون في ذاكرة الشعوب هم من حُرقت كتبهم، من اتُهموا بالكفر والزندقة، من عاشوا في المنفى والسجن، أو قُطعت رؤوسهم"، والتطرف في فكر نوال السعداوي لم يأخذ أي منحنيات صاعدة أو هابطة كما المعتاد، إنما يأخذ شكل خط مستقيم ممتد منذ كتابها الأول "مذكرات طبيبة" عام 1960، وحتى اليوم. منذ البداية وضعت نوال السعداوي نفسها في صدام مع الدين....، وهذا شأنها وحريتها الشخصية، ولكن نقدها للدين –الإسلام تحديداً- انصب على مسألتين: (الطلاق وتعدد الزوجات). فهي ترى أن عقد الزواج الذي يوقعه الرجل والمرأة معاً لا يحق للرجل أن ينهيه منفرداً.. وهذه الفكرة تتعارض مع كرامة المرأة التي يفترض ألا تسمح لها بالاستمرار مع رجل لا يريدها، فضلاً عن أنها تستطيع خلعه إن أرادت. ونالت قضية تعدد الزوجات نصيب الأسد من نقد نوال السعداوي، لأنها تمثل لها قمة الظلم للمرأة. وبصرف النظر عن أن التعدد شرع في ظروف معينة (يمكن مقارنته بالاسترقاق الذي ارتضاه الإسلام لظروف اجتماعية معينة لم تعد قائمة) بصرف النظر عن ذلك فإن المرأة حرة في ألا تقبل شريكة لها في زوجها، فإن أراد الزواج بأخرى من حقها أن تطلب الطلاق. ويمكن القول إجمالاً أن مشكلة المرأة في الشرق هي مشكلة أمراض اجتماعية خبيثة، وليست مشكلة دين، فهو مجرد آداة تستغل لقهر المرأة رغم أنه برئ من ذلك. أخيراً، لا يمكن إنكار دور نوال السعداوي في مسيرة القضية العادلة للمرأة، رغم ما شاب فكرها من تطرف. ويجدر بنا التأكيد على أنه ليست هناك مقدسات أمام العقل الإنساني وحرية الفكر والتعبير، فليس هناك شخص يعلو فوق النقد.. هكذا يجب أن تكون التربية الفكرية، حتى بالنسبة للقارئ الذي بمنهجه النقدي سيعرف كيف يُعمل عقله فيما يقرأ ويميز الخبيث والطيب حسب رؤيته.