فى 25 يناير 2011 اندلعت ثورة شعبية تزايد زخمها عبر ثلاثة أسابيع حتى تحقق هدفها الأول، وهو إسقاط رأس النظام وترنح أركانه وإفساح الطريق أمام بناء نظام ديمقراطى يوفر أفضل الفرص لانطلاق الطاقات للاستخدام الأكفأ للموارد وتحسين مطرد لمعيشة المصريين.. كل المصريين. وقد تأكد للناس، كما هو مؤكد فى الفكر الاجتماعى الاقتصادى، أن الحكم المؤسسى بما يعنيه من مؤسسات مواتية للديمقراطية والنمو هو الأساس لتحقيق الأهداف الحالة والمستقبلية لمصر ما بعد هذه الثورة. عندما بلور الثوار هدفهم فى إسقاط النظام فإنهم أيضا حددوا هدفا آخر هو بناء نظام جديد، ويفترض أن يكون النظام الجديد أفضل بكثير من النظام القديم. آل النظام القديم الذى لم يتحول بعد إلى جديد إلى إهدار البعد المؤسسى لكيان الدولة وإلى خلق ونمو كيانات لا مؤسسية، شكلت حلقات تمحورت حول شخصيات معينة ممسكة بسلطة وشرعية اغتصبتها عنوة، كما تمحورت حول مؤسسات الأمن والقوة فى الدولة. فنفر من رجال الأعمال الجدد لم يكتفوا بممارسة نشاطاتهم من خلال السوق بل أيضا وهذا هو الأخطر من خلال الدولة، وصارت الدولة تمثل المصدر الأكبر لما اقتنصوه من ريع أو دخل غير ناتج عن النشاط الاقصادى لهم، وكلما زاد هذا الدخل عظم النهم «لامتلاك» السلطة بجانب الثروة، وقد وجدوا فى الدولة ليس فقط من رحب بهم بل أيضا وسهل وشرع لهم أوضاعا مريحة، ووجد نفر آخر من التكنوقراط والمثقفين فى الاتحاد أو العمالة لأجهزة الأمن والقوة مصادر لاكتساب القوة والجاه ومن ثم الحصول على ريع ضخم بدا أيضا خاليا من مخاطر السوق وتكاليف إدارة الأعمال، وتضخمت أجهزة الأمن والقوة، حيث صارت هى الحاكمة الفعلية للنظام العام وجميع مؤسساته على هيكل هرمه دون أن تتحمل مسئولية ما يتعرض له من فشل، وغابت بالتالى المتابعة والمحاسبة. لم يعد استخدام الموارد البشرية وترقيتها وإثابتها مشروطا بالمهارة والاجادة بل بالاتصالات الشخصية ومدى التوحد.. القرب أو البعد مع مراكز الأمن والقوة، وغابت قيمة المؤهل، ومن ثم تلاشى الحافز على التعلم ناهيك عن التفوق، بل وأصاب الموهوبين والراغبين فى التعلم الجيد والصعود الاجتماعى حالات من الإحباط الشديد. وكانت الكوارث هائلة: ركود بل وتردٍ اجتماعى سياسى طويل، وفساد أهدر ناتجا لعرق الملايين، وتبديد مكشوف ومستتر للموارد القومية، وأداء للاقتصاد أقل بكثير من الإمكانات الهائلة التى يملكها. وماذا بعد؟ الطريق إلى أعظم نمو حضارى ينال من ثماره كل الناس هو بناء مؤسسات فعالة يشارك فيها الناس ويدركون أنها مؤسساتهم. ليس ثمة نمو وتنمية دون مؤسسات قادرة وفاعلة فى تحقيق الاستفادة المثلى من الطاقات والإمكانات. إن المؤسسات عكس الشخصنة أو اللامؤسسية، وتاريخ مصر عبر ما يقرب من قرن ونصف القرن يعكس صراعا بين القوى المؤسسية أى الراغبة فى إدارة النظام العام خلال مؤسسات قادرة وفاعلة وبين القوى المشخصنة الراغبة فى السيطرة على الدولة أو السلطة وتسخيرها لمصالحها الضيقة. إننا لن نخترع الديمقراطية، فقد أخترعت منذ زمن طويل، وإنما سوف نبتدع طريقنا الخاص إليها مثلما الفرق بين الديمقراطية البريطانية والألمانية أو الأمريكية. يبدو أن للديمقراطية أحكاما ومعايير دولية مثلما تلك الخاصة بلعبة مثل كرة القدم. فالديمقراطية فى جانب منها هى تنظيم للمنافسة ولقواعد اللعبة الاجتماعية الاقتصادية. عندما نادت طلائع الشعب الثائر، بإسقاط رأس النظام وحل مجلسى الشعب والشورى وإتاحة حرية تكوين الأحزاب وإسقاط قانون الطوارئ، ووضع دستور جديد، وتشكيل حكومة من كفاءات خلاقه تمثل قيادات حقيقية نابعة من الناس وليس من خلال أجهزة الأمن والقوة فإن هذه الطلائع كانت تضع بيدها حجر الأساس لبناء نظام ديمقراطى جديد. إن هذا لا يعنى إلغاء أجهزة الأمن والقوة بل ليس ثمة غنى لأى دولة عنها، بل يؤكد أنها يتعين أن تمارس سلطاتها فى حدود القانون. فلا يجب أن تدير الانتخابات وتطبخها.. كل الانتخابات حتى انتخابات الطلاب، ولا يجب أن يمر كل من يعين أو يرقى إلى وظيفة ما من خلالها، إن هذا الوضع جعل كثيرين يهرعون إلى هذه الأجهزة ملتمسين الترقى والقوة منها. وعزف شرفاء عن هذا السلوك، وحرم الوطن من كفاءتهم بل هجروا خارجه. إن القوى اللامؤسسية الفاشلة لن تسلم بسهولة للقوى الحية المبدعة الشريفة، وسوف تجرى محاولات مستميتة لإجهاض الثورة وتفريغها من مضمونها، والعودة بالبلاد إلى دورة جديدة لنظام جديد تحل فيه عصابات جديدة محل عصابات أسقطها سقوط النظام السابق. إن السبل للحيلولة دون ذلك كثيرة من بينها الإسراع فى بناء مناخ للمنافسة السياسية الحقه والمستدامة، والإبقاء على إمكانية استدعاء زخم الثورة الشعبية التى رأيناها فى الأسابيع الثلاثة الأولى من يناير 2011.