تدخل مصر ومعها العرب إلى العقد الثانى من القرن والألفية، كما دخلت ليس فقط إلى هذا القرن، بل وإلى القرن الذى سبقه، وهى على نفس الحال من التوعك والشحوب والوهن، الذى راح يتفاقم مع استمرار البؤس إلى حالة من التمزق والتآكل تغذيها موجات متوالية من العنف الناعم والخشن. وإذ يأسف المرء لما آلت إليه الأوضاع من مجابهات دامية بين مكونات التركيب الفسيفسائى للمجتمعات العربية، فإن الأمر ينبغى أن يتجاوز مجرد الأسف على هذا الذى يجرى إلى محاولة فهمه والوعى بما ينتجه فى بنية الثقافة ونظام العقل السائد فى حقلها. فإنه لا يمكن أبدا رفع الغمة إلا إلا بالوعى لما يؤسس لها فى عقل الأمة. ولسوء الحظ، فإن هذا ما لا يتجه إليه الفكر فى الأغلب. ففى حالة مصر التى تقدم نموذجا دالا للحال فى العالم العربى بأسره، لا يفعل المثقفون مع كل موجة عنف، إلا أن ينهمكوا فى صلوات جنائزية لا تنتهى، يرددون خلالها الأناشيد المعادة والتراتيل المكرورة التى لا تتجاوز أبدا سطح الحدث إلى ما يخفيه ويضمره. فليس ثمة على الدوام إلا الحديث المعاد عن الأزمة التاريخية والاجتماعية والنفسية التى تأخذ بخناق أجيال بائسة لم تجد سوى العنف مخرجا من حصارها، وهو كلام صحيح أضيف إليه هذه المرة تآمر الخارج، لكنه يقف عند سطح الواقع لا يتجاوزه إلى ما يرقد تحته من خطاب كامن ينتظم كل ما يحدث على السطح. ولعل الأمر يبدو، هكذا، أقرب إلى مجرد التطهر وإبراء الذمة، منه إلى السعى الجاد لإزاحة الغمة. وتتأتى المشكلة هنا، ليس فقط من أن الوعى يعجز والحال كذلك عن الإمساك بالخطاب الثاوى فى العمق بما هو الجذر المتخفى للأزمة، بل ومن كونه وهو الأخطر يظل يلتمس منه حلول أزماته، وبما يعنيه ذلك من استمراره فاعلا من وراء الأقنعة التى يتخفى خلفها. وأما أن هذا الخطاب هو أصل الأزمة وجذرها، فمرده إلى أنه خطاب فرض إكراهى لتراكيب وتواليف إيديولوجية جاهزة على واقع لا يراد منه إلا أن ينصاع لها، باعتبار أنها الحلول الوحيدة القادرة على إخراجه من أزمة جموده وتخلفه. وضمن سياق هذا الفرض الإكراهى القسرى للحل الجاهز على الواقع، فإنه لا خلاف بين الليبرالى (الذى كأنه أحمد حسن الزيات) الذى راح يستصرخ زمانه، مع نهاية أربعينيات القرن المنصرم، أن ينجب «مصلحا متسلطا» يقدر «بالسيف فى يده» على تحقيق ما عجزت ليبراليته الناعمة عن تحقيقه، وبين العلمانى (الذى كأنه سلامة موسى) الذى أعلن أنه «لا يتصور نهضة عصرية لأمة شرقية، ما لم تقم على المبادئ الأوروبية للحرية والمساواة والدستور والنظرة العلمية للكون»، وبين صاحبهما السلفى (الذى تعددت أصواته وتباينت وجوهه) والداعى إلى أنه «لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها». وهكذا الكل حامل للحل الجاهز فى يده، وليس على الواقع إلا أن ينصاع ويذعن، وإلا فإن السيف هو البديل. وليس من شك فى أن خطابا لا يعرف إلا محض هذا الفرض الإكراهى لحلوله الجاهزة على الواقع لايمكن إلا أن يكون الأصل فيما تكاد تغرق فيه المجتمعات العربية من عنف تتدرج أشكاله بين الناعم (الصامت) والخشن (الصارخ).