«النظر فى عين العدم ليس كمثله شىء» هكذا لخص الشاعر فريد أبوسعدة رحلته مع المرض مؤخرا، وكذلك فإن نظرة شاعر فى ذلك «السحاب الأبيض اللانهائى) ليس كمثله شىء، إذ أنتجت أبدع نصوص الشعر الحديث، لكن سعدة وبعكس صاحب «الجدارية» محمود درويش وصاحب «مدائح جلطة المخ» حلمى سالم وغيرهم ممن كتبوا معاناتهم مع المرض، قال إنه لا ينوى استعادة مرارة التجربة «فتجربة الوقوف على البرزخ، بين الموت والحياة، لا يمكن التعامل معها كموضوع شعرى فقط، إنها أكبر من الشعر وأكبر من الكتابة، كأن الوجود كله على المحك»، ويحكى صاحب «اسمى ليس أنا» أنه ودّع الكثير من الأصدقاء، ووضع صورة للراحلين محمد صالح وعفيفى مطر على صفحته فى الفيسبوك قبل دخوله إلى غرفة العمليات، وعلق عليها: «مع السلامة. لن أتأخر كثيرا». كان سعدة إذا يودع الحياة كلها ولا يفكر فى الشعر، ويقول: «كنت كمن زهد فى عمر بلا ألفة، عمر فائض عن الحاجة، قلت ذات موت: للذين يموتون وجهى، تغيَّرُ من يرحلونَ، ولكن بعضى، يغيبُ مع الراحلينَ، وأُصْلى وحيدا ببعضى، وذهبت إلى التجربة»! فهل ينتظر القارئ نصا شعريا يكتبه من عاش فى رحاب الراحلين وقطع إليهم نصف الطريق؟ يقول: «ربما يكون مبكرا القول بإمكان كتابة هذه التجربة أم لا، مهما بدت متكررة مثل غرض شعرى لابد من الكتابة فيه، فهناك ممن مروا بتجارب مشابهة منهم من كتب ومنهم من لم يفعل». وإن لم يكتب سعدة عن المرض مباشرة إلا أن تجربة كتلك تغير نظرة الانسان للحياة بكل ما فيها، فكيف عاد؟ يقول «ربما بنظرة طائر على حيواته الماضية، يرى فيها ما لم يره، ويدرك أن الوقت أضيق من أن يضيع فى المكرور والتافه، وأن الحياة ليست بروفة جنرال لحياة أخرى، أو اغماءة نفيق منها فنستدرك ما فاتنا، إن ما لن نفعله لن نفعله أبدا»! من يعرف صاحب «سيرة ذاتية لملاك» يقع فى غرام شغفه بالحياة وولعه بفكرة الخلود، فهل تتحول ألوانه التى تطالعك حتى فى أرديته إلى درجات أكثر قتامة؟ يؤكد سعدة أنه «لا علاقة بين تجربة كهذه، وبين التعبير عنها بصور شعرية تمتلئ بالجهامة أو القتامة، هناك فقط وعىٌ مختلف، وتحول ملموس من الديونسيسية إلى الأبلونية، أو من زخم الحسية فى صورتها الأنثوية، إلى مقاربة التجريد واللذة العقلية». سعدة صاحب مشروع شعرى امتد لنحو أربعين عاما، بدأها بديوانه «السفر إلى منابت الأنهار» وأتبعها بعدد من المجموعات الشعرية تزيد على العشر مجموعات وأبرزها «غزالة تقفز فى النار» و«سماء على طاولة»، كتب مجموعة من الاعمال المسرحية ومجموعات من القصص القصيرة للاطفال والأغانى، لكن هذا المشروع لم يستوقف الأجهزة الثقافية إلا مؤخرا، فما كان منها إلا أن التفتت إلى أنها ستفقد شاعرا مهما دون تكريمه، لذا وفى أعقاب أزمة المرض اختارت الهيئة العامة لقصور الثقافة أن تقوم بهذه المهمة خلال مؤتمر أدباء مصر المنصرم، لكنه يرفض الربط بين أزمة المرض وبين تكريمه قائلا: «لا أعتقد أن أزمتى المرضية كانت السبب وراء تكريمى، هذا يقدم صورة كاريكاتيرية عن مؤسسة رؤم!، كثيرون من كبار المبدعين رحلوا قبل ان تتنبه المؤسسة الرؤم لهم، وبعضهم حصل عليها وهم على فراش المرض لا يدرون، ثم اننى حصلت عام 1993 على جائزة الدولة التشجيعية ووقتها كنت فى الأربعينيات، وحصلت على جائزة اتحاد الكتاب عام 2003 ولم أكن مريضا وقتها، المؤسسة كيان ضرير لا يرى، يقوده بعض النقاد والمثقفين، على طريقة قل ولا تقل، التكريم الرسمى دائما ما يتأخر، وهو يعنى فيما يعنى أن ثمة اجماعا على قيمة الشاعر من الجماعة المعنية، وأن التكريم الرسمى يأتى انصياعا بشكل من الاشكال لهذا التكريم، أى أننى أرى التكريم الشعبى من وراء هذا التكريم الرسمى، أرى تكريم محبى وجمهور الشعر، أرى تكريم النقاد، وأرى المكانة التى أصبحت لى فى خريطة الشعر، دليلى على ذلك حصول الشاعر الكبير عفيفى مطر على جائزة الدولة التقديرية بالرغم من محاولات المؤسسة الثقافية تهميشه، بل وقتله معنويا لمجاهرته بما لا يعجب هذه المؤسسة، الأمر الذى أدى إلى اعتقاله فى وقت من الأوقات، لكنها لم تستطع إلا أن تنصاع لتكريمه بعد أن كرمته الجماعة المعنية، التى هى كل ما نراهن عليه». هذا التكريم وإن كان معنويا فقد فتح على سعدة نيرانا صديقة، فلم يفلت من ملام صديقة له على صفحة الفيس بوك استنكرت قبوله التكريم، ولا يخفى عن المتابع أن علاقة سعدة بالمؤسسة الرسمية شهدت بعض الشد والجذب، لكنه يؤكد: «المؤسسة الثقافية ليست الموساد، وليس التعامل معها نوعا من التخابر مع العدو، المؤسسة جزء من نظام وطنى: فاسد ربما، آبق ربما، دكتاتورى ربما، لا أختلف مع هذا لكنى لا أعتبره عدوا، أو أساوى بينه وبين العدو، هذه المؤسسة التى تدار بأموال دافعى الضرائب، أموالنا، ما الذى يمنع من التعامل معها إذا ما هيأت لنا الفرصة للعمل فى خدمة الثقافة إلى أن يثبت العكس؟! فعندما أصدرت البيان المؤيد لصنع الله إبراهيم، كنت أساهم فى إحراج نظام خاضع لأمريكا، ويساهم فى حرب بالوكالة ضد العراق، وكنت أعرف أن هذا الموقف سيغضب المؤسسة، ومع ذلك دفعت الثمن إذ بعد شهرين، عندما حان وقت تشكيل لجنة الشعر لم أكن موجودا! أنا مع مقولة، «فإن عادوا عدنا!». بعكس الكثير من أبناء جيله لا يعانى سعدة حالة الرفض التام للكتابات الجديدة فاستطاع التواصل مع كتابها بل وكتب مثلهم أحيانا مزج بين قصيدة النثر والتفعيلة بكل بساطة، لكن هل تصمد هذه الروح المتسامحة أمام أصوات جديدة استطاعت أن تخلق لنفسها جماهير عريضة مثل هشام الجخ وأحمد بخيت وإيمان البكرى وغيرهم ضاربة بكل نقاشات الوسط الثقافى ومعاييرها الجمالية التى كرستها عبر أجيال عرض الحائط؟ يقول سعدة إن «الفعل الشعرى مختلف عن الفعل السياسى، ولم تعدم الحركة الشعرية فى أى مرحلة من مراحلها من شعراء العامة، شعراء الخطبة السياسية، لقد شكلت الواقعية الاشتراكية بكل التباساتها قناعات معظم المبدعين، وبشكل اكثر انضباطا امثالنا من المنخرطين فى العمل السياسى فكان علينا ان نثمن جوركى بأعلى من تشيكوف، وناظم حكمت بأكثر من إليوت، وبريخت بأكثر من أرثر ميللر، وأحمد فؤاد نجم بأكثر من أدونيس». بنبرة لا تخلو من ندم يروى: «اهدرت هذه الفترة خيارات افضل. كانت قصائد مثل «البكاء بين يدى زرقاء اليمامة» و«الكعكة الحجرية» و«لا تصالح»، هى بكل المقاييس قصائد الروح الجماعية وبنفس القدر كانت قصائد مثل «يعيش المثقف على مقهى ريش» و«مصر يا امة يا بهية» وغيرها تجل لهذه الروح، وفى اوائل السبعينيات بدأت افكر على هذا النحو: اذا كنا جميعا نقول الشىء نفسه تقريبا، مسايرة للناصرية، او مناهضة لها فالأهمية إذن لم تعد فى القول وانما فى كيفية القول، اى ان الشعرية قد انتقلت من المضمون إلى الشكل بتعبير تلك الايام، وان امتياز امل ونجم لم يكن فيما يقولانه وانما فى الكيفية التى يقولانه بها، أما حكاية البيست سيلر هذه فيمكن التحقق من جديتها بمراجعة مبيعات أحمد فؤاد نجم أو أمل دنقل، الشعر فن نخبوى وأنا شخصيا لا أطمع فى مزاحمة الواصلين إلى البيست». لكن هل يشعر سعدة أنه وجيله (جيل السبعينيات الذى ينتمى إليه) مسئول عما آلت إليه الأوضاع بسبب ميلهم المفرط إلى التجريب؟ يقول: «سأتفق معك افتراضا، بأن الغموض الذى صاحب هوجة التجريب فى السبعينيات، قد أدى إلى عزوف الجمهور عن الشعر، ولكن ألا ترين أن بيننا وبين هذه السبعينيات أربعين عاما؟، وأن ثلاثة أجيال من الشعراء جاءوا بعدنا، ألم يكن كافيا كل هذا الوقت لهذه الأجيال الثلاثة، لتعيد جمهور الشعر إلى الشعر؟!».