لو أردنا، بتبسيط مخل، أن نربط بين موازين القوى المادية وموازين القوى المعنوية للدول لتبين لنا أن التقدم يقتضى أفكارا متقدمة أيضا. فمثلا هناك ثلاث أفكار كبرى عرفها المسلمون الأوائل فجعلتهم يتفوقون على غيرهم، ثم طور الأوروبيون والأمريكيون أفكارا مناظرة لها ومتطورة عليها فدفعتهم إلى الأمام دفعا. وهذه الأفكار الثلاث الكبرى هى الشورى فى مقابل الديمقراطية، والتسامح الدينى فى مقابل الليبرالية، وقواعد العدالة غير المدونة فى مواجهة العدالة القانونية المنضبطة. أحسب أن هذه الأفكار الثلاث وتطبيقاتها كانت من أسباب ازدهار الحضارة الإسلامية لمدة سبعة قرون سمان ثم تراجعها اللاحق فى قرون سبعة عجاف. وفيما يلى شىء من التفصيل. أولا: الشورى والتى يستعين فيها المستشير بآراء الآخرين على ضعف رأيه وقصور فهمه. وقد جعلها الإسلام جزءا من أوامره. ومن أسف، فقد جعلها معظم الفقهاء واجبة، غير ملزمة. وهذا المعنى يحتاج إلى إيضاح، فجمهور الفقهاء ذهبوا إلى وجوب أن يستشير الحاكم أهل الرأى والعلم، إلا أن قرار أهل الشورى ليس ملزما بمعنى أنه من حق ولى الأمر أن يأخذ برأى من أشاروا عليه أو أن يتجاهله، فالقرار معلم (بضم الميم) وليس ملزما. ويستدلون بالعديد من الحوادث على رأسها أن سيدنا أبا بكر شاور أصحاب الرسول (صلى الله عليه وسلم) فى أهل الردة، وخالفهم ومضى للحرب. ويخرج بعض فقهائنا المعاصرين باجتهادات جديدة تجعل الشورى واجبة وملزمة فى نفس الوقت؛ فالشيخ القرضاوى مثلا حينما عاد إلى الماضى بحثا عما يدلل به على إلزامية الشورى استشهد بفقيه حنفى مشهور يعود إلى القرن التاسع عشر وهو ابن عابدين وكأن تراثنا الفكرى والفقهى والفلسفى قبل القرن التاسع عشر وقف من الشورى موقف القبول بالوجوب دون التشريع بالإلزام. وكان هذا الوجوب، دون الإلزام، كافيا لأن يكون المسلمون أفضل حالا من معاصريهم من أبناء القرون الوسطى فى الغرب الذين كانوا فى حكم جاهلية ما قبل الإسلام بلا شورى أو أى قواعد مستقرة فى اتخاذ القرار. لكن دوام الحال كان من المحال فى الغرب، فبدءا من ميكافيللى (القرن السادس عشر) فى كتابه الشهير «المحاورات»، التفت الغرب لأهمية وجود مستشارين بل ومشرعين فى مجالات الحياة العامة المختلفة على نحو ما كان مجلس الشيوخ فى عهد الرومان. وتباعا تفوق الغرب على المسلمين بأن ابتدعوا منظومة الديمقراطية النيابية والتى تفوقت ولا شك على الشورى «المعلمة» بأن قامت على آليات مستقرة لتعدد مراكز صنع القرار من خلال انتخابات حرة نزيهة ودورية ومراقبة لصيقة على صانع القرار السياسى. وهو ما جعل الغرب يقفز قفزات هائلة فى وضع قيود على استبداد المستبد وتسلط المتسلط. ففى الوقت الذى كان يقطع البرلمانيون الإنجليز رقبة تشارلز الأول المتغطرس فى القرن السابع عشر، كان الولاة العثمانيون يقطعون رقبة من يرفع صوته بالمعارضة. وفى الوقت الذى كانت البرلمانات الغربية تحصل فيه على حقوق أكثر، كان أعظم ما يستطيعه أصحاب الحرف وعلماء الدين وغيرهم أن يستعطفوا الخليفة وولاته. وهكذا غلبت الديمقراطية بمؤسساتها وإجراءاتها الشورى التى لم يطورها الفقه والفكر المسلم إلى أن تصبح قواعد مستقرة ومؤسسات دائمة. ولنأخذ فكرة كبرى ثانية أسهمت كثيرا فى تفوق المسلمين لمدة سبعة قرون على غيرهم ثم أدى عدم تطورها أو تطويرها لأن تكون السبب فى تقدم غيرهم عليهم. وهذه الفكرة هى فكرة التسامح الدينى والتى عبر عنها مصطلح «أهل الذمة» والذى سمح بخلق مساحة من التعايش والتسامح بين المسلمين وغيرهم. فغير المسلم فى المجتمع المسلم يحيا حياة يجمع فيها بين عدد من الحقوق التى ما كان لأى مخالف فى الدين أن يتمتع بها فى ذلك الوقت. فقبل الإسلام، ما عرفت البشرية إلا نادرا، فكرة أن يحيا امرؤ جهارا على دين يخالف دين من يحكمه. فالدين كان جزءا من الولاء للنظام السياسى. أما الإسلام فقد جاء للبشرية بحرية الدين فى أكثر من مائة آية من آيات القرآن العظيم. وهكذا ضمن هذا التسامح أن تتسع دائرة ال«نحن» التى تشمل المسلمين وغير المسلمين فى إطار الحضارة الإسلامية فى مواجهة دائرة ال«هم» من أتباع الحضارات الأخرى. ومع ذلك ظل غير المسلمين، فى كثير من العهود الإسلامية، يعلمون أنهم ليسوا على قدم المساواة القانونية مع نظرائهم من المسلمين فهم فى النهاية أهل الذمة وليسوا مواطنين كاملى المواطنة بالذات فيما يتعلق بحقوقهم السياسية حتى وإن عاشوا أحيانا عصورا ذهبية يذكرونها بكل الخير. وقد تفوق الأوروبيون والأمريكيون على المسلمين فى سؤال التسامح تدريجيا بدءا من منتصف القرن السابع عشر. فقد وصل الغربيون إلى ما هو أكثر تسامحا من صيغة أهل الذمة بأن تبنوا الليبرالية التى لا تهتم بأن تسأل الإنسان عن دينه من الأصل إمعانا فى المساواة القانونية والتسامح السياسى. ومن هنا فإن عددا من المفكرين المسلمين المعاصرين يحاولون أن يمدوا خط التطور الفكرى على استقامته رافعين شعار «مواطنون لا ذميون» كما جاء فى الكتاب القيم للأستاذ فهمى هويدى. وقد تفوق الأمريكيون على الأوروبيين فيما يتعلق بمساحة التسامح الدينى والسياسى عبر تبنيهم لليبرالية وهكذا اتسعت دائرة ال«نحن» لتشمل مبدعين من كل الأديان على قدم المساواة فى مجتمع واحد. وعليه لن يكون المجتمع أكثر تقدما وهو أقل تسامحا. وثالثا: تأتى فكرة العدالة بمعنييها القانونى والاجتماعى. فقد تفوق الإسلام على جميع الأديان والنظم السابقة عليه بأن جعل شريعته الشريفة فوق الجميع حاكمين ومحكومين كما أعطى لسلطة القضاء الكثير من المكانة والهيبة اللتين جعلتا منها أداة مهمة لإقرار الحقوق والواجبات فى المجتمع. وهو ما جعل القاضى سيف الشرع المسلط على الجميع، بيد أن مدى قدرة القاضى على أن يقوم بوظيفته تلك كانت محفوفة بعدة مخاطر. فأولا وجود مذاهب فقهية متعددة جعل الجريمة الواحدة يمكن أن يكون لها عدة عقوبات وفقا للمذهب الفقهى، وثانيا غياب القانون المكتوب جعل بعض من فى قلوبهم مرض يطمعون فى أن يلووا أعناق الأقوال والاجتهادات الفقهية كى تخدم مصالحهم، فيضيق النص ويتسع مع موازين القوى فى المجتمع. وهناك ثالثا فكرة القاضى الفرد الذى يقضى بلا مشورة أو استئناف أو نقض. وكان هذا النظام، رغما عما يبدو فيه من عيوب، أفضل كثيرا من محاكم القرون الوسطى فى أوروبا حيث نظير كل هذه العيوب ومعها ما هو أكثر من ذلك من سيطرة باباوات الكنيسة وأمراء الإقطاع على المحاكم. ولكن عصر النهضة شهد تطورا ضخما فى مفهوم القضاء بأن انفصل ابتداء عن القضاء الكهنوتى وأصبح مكتوبا فى نصوص يقوم بتشريعها ممثلو الشعب بل وأصبحت المحكمة، فى القضايا المهمة، تتكون من ثلاثة قضاة على الأقل حتى يتشاوروا ويذكر بعضهم بعضا. بل وأصبح حتما لكل متقاض أن يكون له محام لأن بعض الناس ألحن من بعض، كما يقول رسولنا الكريم (صلى الله عليه وسلم). وهو ما جعل رفاعة الطهطاوى يقول إن النظام القضائى الفرنسى أكثر عدلا، وبالتالى أكثر التزاما بروح الإسلام، من نظام المحاكم الشرعية، حيث القاضى المنفرد والمذاهب الفقهية المتعددة، الذى كان سائدا فى المجتمعات الإسلامية. ما الهدف من كل ما سبق؟ أنا لا أدعو لتعطيل أى نص مقدس، بل على العكس أنا أعتقد أننا شديدو الحاجة للعودة إلى أصول النصوص الدينية كى نفهم الحكمة من ورائها وأن نتعرف على نتائج ما نستنتجه منه. فالنص الواحد، الذى هو حمال أوجه، قد يفهم على نحو يؤدى إلى الازدهار والتقدم، أو يفهم على نحو يؤدى إلى الاندحار والتخلف. والقرار لنا إما أن نحلق فى السماء أو أن نعيش أبد الدهر بين الحفر.