نماذج لبيوت تعكس تفكيرا خاصا ونهجا فى الحياة، فمنزل العامل صابر بركات أو الصيدلانية ناهد يوسف أو الكاتب فهمى هويدى تعبر عن تطورات شخصية أصحابها ورحلتهم مع الذات. لمنزل صابر بركات القديم بحى شبرا الكثير من الخصوصية، فأقطاب اليسار من أمثال أحمد نجيب الهلالى ويوسف درويش وعبده فضل وأحمد طه ولطفى الخولى كانوا يجتمعون فى هذه الشقة التى لا تزيد مساحتها على الأربعين مترا مربعا والموجودة فى بدروم أحد العقارات القديمة. وأيضا الكثيرون من زملاء بركات العامل الخمسينى فى النضال والحركة العمالية خطوا بأناملهم على جدران هذا البيت، لذا فعلى الرغم من حصوله على شقة أخرى جديدة منذ ثلاث سنوات بحلمية الزيتون فإنه دائم التنقل بين المنزلين، خاصة أنه لم يتمكن بعد من نقل كل كتبه. ففى المنزل القديم يستطيع أن يشتم رائحة نضال الماضى ووقود المصانع وأزيز الآلات، كما يسترق بعض أمسيات القراءة الممتعة». «منذ الصغر سكنت شبرا التى كانت من أهم الأحياء العمالية فى مصر، كنت أشعر بزهو كبير عندما أرى ذوى الياقات الزرقاء يذهبون إلى عملهم صباحا، وعلى عكس الكثير من أبناء جيلى الذين كانوا يحلمون بدراسة الطب أو الهندسة تمنيت أن أكون عاملا، لذا لم يكن اختيارى لمكان منزلى وليد المصادفة لكننى أحببت هذا الحى وهذا العالم». بيته «الشبراوى» كان دائما معبرا عن فكره، فحوائط المنزل شديدة التواضع مغطاة تقريبا بكتب عن الحركة العمالية التى يفخر صابر باقتنائها. ويروى: «البيت ضيق للغاية لدرجة أننى عندما أنجبت ابنتى الوحيدة وجدت صعوبة بالغة فى أن أشترى لها سريرا ودولابا صغيرين، والحمام لا يتعدى المترين، وكان يصعب جدا على الطفلة أن تستحم لذا اشتريت طستا أحمر ما زلنا نحتفظ به حتى اليوم». مسكنه الجديد يحمل أيضا طابع صاحبه الخاص، فرغم إصراره على طلاء البيت باللون الأبيض الذى يشعره بالراحة من رمادية زيوت وشحوم الآلات، لكن اللون الأحمر القانى يلازمه لما له من دلالة خاصة فى الفكر الماركسى. يرى صابر أن اختياره للون نابع من اللا وعى، فهو لم يختره عن قصد صريح. أما علم المناضل جيفارا فلا ينافسه على حوائط المنزل سوى صوره مع زوجته الطبيبة التى كان والدها هو الآخر زعيما للحركة العمالية الفلسطينية. وتشهد الشقتان الجديدة والقديمة على براعة صابر اليدوية، فالمشغولات من السلال وقصاصات الجرائد موجودة فى كل مكان. «اعتقلت 9 مرات وتعلمت من خبرتى الطويلة فى السجون أنسنة الزنزانة وكيفية تحويلها لمكان أكثر آدمية». فى كتابه «رحلتى الفكرية» يقول الدكتور عبدالوهاب المسيرى (دار الشروق، 2006) إن الأشكال الفنية التى يعيش معها الإنسان تشكل كيانه ورؤيته فى كل لحظة دون أن يشعر، وإنه من خلال دراسته للشعر الرومانسى بدأ يدرك أن الجمال يعمق الانتماء بعكس الوظيفة. تمرد الدكتور المسيرى على الصراع الطبقى وتبنى الرؤية الإنسانية التى لا تعبر عن نفسها إلا من خلال أشكال حضارية تاريخية محددة ومنها المعمار الداخلى للمنزل. توافقه الرأى الدكتورة ناهد يوسف، مديرة مصنع للأدوية وعبواتها وأرملة الكاتب الراحل عادل حسين، فالمنزل بالنسبة لها يعكس أيديولوجية صاحبه وأفكاره. وقد حرصت من البداية على احترام أفكارها الناصرية حتى منذ اختيار مساحة الشقة: «قضيت معظم حياتى فى شقة لا تتجاوز التسعين مترا مربعا، تقلصت الآن إلى ستين مترا مربعا بعد رحيل الزوج وزواج الأبناء. كنت سأشعر بالإجرام إذا قررت أن أسكن شقة تصل مساحتها إلى 400 متر مربع بينما هناك من لا يجد منزلا من عشرة أمتار». حرصت ناهد أيضا على أن تستغل كل مساحة من المنزل، فصالة الاستقبال تم توظيفها ببراعة وبساطة فى آن عبر انتقاء قطع صغيرة وقليلة من الأثاث حتى لا تصبح عبئا على المكان. وعدم وجود أبواب مغلقة باستثناء بابى الحمام وحجرة النوم يضفى شعورا بالرحابة والتحرر. فى ركن مشمس من المنزل تتناثر وسائد مريحة أمام أوان فخارية للنباتات، مما يكسب المنزل سكينة وهدوءا، هنا تجلس الدكتورة ناهد للقراءة أو مساعدة الأحفاد لاستذكار دروسهم. وسط الصالة توجد مكتبة من خشب الأرابيسك تشغل حيزا لا بأس به من المكان وتبدو متناغمة مع الكراسى العربية الطابع والأطباق التى جلبها عادل حسين من إيران أو القطع الأفريقية التى تعتز بها ناهد إذ تذكرها بجذور جدتها الحبشية. لوحات زيتية لفنانين مصريين أمثال عدلى رزق تزين المكان ونبض بحياة الريف والأحياء الشعبية، وإن كانت الدكتورة ناهد تبدى إعجابا خاصا بلوحة القدس: «يكاد ينخلع قلبى لها (على حد تعبيرها)، اشتراها زوجى من فنان فلسطينى. لم تلهث قط صاحبة المنزل وراء بريق الصالونات الفرنسية من طراز لويس الخامس عشر أو السادس عشر، وعاشت الحلم الناصرى برومانسيته ولا تزال مؤمنة به حتى ولو فى حدود بيتها الصغير. «المنزل يعكس الهوية والذات»، كما تقول لذا فهى ترفض أن تعيش حالة من الازدواجية والتضاد بين أفكارها وواقعها اليومى. سر المكتب البمبى أما المهندس أحمد حامد أستاذ العمارة فى جامعة مصر للعلوم والفنون الحديثة فيرى أن علوم السلوكيات تؤكد وجود علاقة بين فن المعمار والثقافة المادية، ويوضح: «اختيارات الإنسان تعكس شخصيته وتؤكد رغبته فى نقل انطباع ما لدى الآخرين من زائريه، وقد تكون هذه الانطباعات التى يريد الشخص عكسها إما نابعة من ثقافة حقيقية أو زيف ما. ولعل أنجح الفراغات لمستخدميها هى تلك التى تعبر عن شخصية أهم زائر للبيت أى مالكه». ويضيف الدكتور حامد: «قرأت فى إحدى المجلات الأمريكية أن حمالة صدر لمارلين مونرو قد تم بيعها بمليون دولار. وربما قد يطرح ذلك سؤالا: «هل تساوى حمالة صدر لنجمة كل هذا المبلغ، لكن فى واقع الأمر أن من دفع هذه القيمة يعتقد بأنها تعبر تماما عن جوهر الثقافة الأمريكية الحقيقية». ينطبق الشىء نفسه على المثقف الذى يحاول أن يعكس بيته فلسفته الخاصة، فهو يعرف جيدا أن الأوعية التى ينتقيها مليئة بالمعانى ويستخدمها لتبيان هذه المعانى، بينما يضع الشخص غير المثقف أى شىء لأنه غير واع بمدلولات الأشياء. يعبر حامد عن استيائه لاستخدام بعض الأثرياء العرب للون البمبى فى المكاتب، رغم أنه لون يدل على التخنيث أو اضطراب الجينات». المثقف هو من يسعى لوضع الأشياء فى سياقها ويفهم توجهاتها. فعندما ظهرت موضة المينى جيب، ظهر فى الأثاث صيحة الأريكة المنخفضة التى تظهر سيقان النساء أكثر عند الجلوس عليها كنوع للاستمتاع بجمال سيقان المرأة وجمال تصميم الأثاث». يبدى حامد إعجابا خاصا بحرص الرئيس بشار الأسد على استقبال زواره فى صالونات دمشقية الصنع والطراز بينما يشعر بنوع من الغرابة فى قاعات استقبال كبار الزوار فى دول خليجية إذ تحوى صالونات فرنسية الصنع مذهبة ومزاهر فضية تحتوى على ورد بينما تبدو الطبيعة الصحراوية لهذه الدول بعيدة عن هذه الصورة التى تريد عكسها»، فالمهندس أحمد حامد أحد تلامذة المعمارى حسن فتحى يحب «التراث الطازج» النابع من الذات. سجاد إيرانى يكسو أرضية المنزل، مخطوطات عربية تزين الجدران، قطع أرابيسك قديمة كانت مخصصة لحفظ المصاحف فى المساجد، قلادات باكستانية، علب سجائر إيرانية الصنع، مباخر عمانية، أوان أردنية، وسائد فلسطينية، مزاهر من المغرب تجاور صندوقا دمشقى الصنع، أبواب إسلامية الزخرف.. بيت الكاتب والمفكر فهمى هويدى يحمل من كل بستان زهرة ويعبر عن توجهه الإسلامى. يروى هويدى أنه فى بداية حياته الزوجية لم يكن قد تبلور موقفه الفكرى والسياسى، فكان أثاث بيته على الطراز الفرنسى السائد حينئذ: «لم أكن مرتاحا نفسيا مع هذا النمط الحضارى». مع مضى الوقت وكثرة الأسفار ووضوح الرؤية وتحسن الوضع الاقتصادى بدأ يغير من ديكور منزله شيئا فشيئا، ويقول: «يعتبر ذلك رمزا للتحرر من تقليد الغرب». ثم يطرح سؤالا فى صورة صرخة: «ألا يكفى أنهم احتلوا بلادنا هل من المفروض أيضا أن يحتلوا بيوتنا؟ لست ضد النموذج الغربى كتجربة إنسانية أنتقى منها ما أريد، لكننى أرفض فكرة أن يكون مثلا أعلى يملى على ما أتبناه». الأمر ذاته حدث مع الدكتور عبدالوهاب المسيرى الذى يروى فى سيرته الذاتية «كيف حول بيته بعد عودته من الولاياتالمتحدةالأمريكية من الطراز الفرنسى إلى الطابع الشرقى، فقد كان يشعر بأن التشكيل الحضارى الغربى الذى اعتمده فى السابق لا يعبر عن خصوصيته. ومنذ نهاية السبعينيات بدأ مشروعه الخاص داخل المنزل وحوله وفقا لما سماه «الأسلوب الاستيعابى» الذى يحاكى التراث ولا يقلده، مع قدرته على الانفتاح على الآخر واستيعابه. فلم يكن من المستغرب أن يجمع بيته بين غرفة مائدة من طراز «إدواردى» انجليزى وقطع أثاث من الطراز العربى، بل حول مدخل عمارته لمتحف صغير يضم مفردات تراثية كادت تندثر مثل الكرسى العربى وصندوق العروس والنوارج.