بينما يحتفل المسئولون فى نيويورك بمرور عام على الحملة الصحية التى تحمل اسم «لا تشرب مما يجعلك بدينا»، من خلال تعزيز الدعاية للحملة، فإن هناك مجموعة واحدة لا تشاركهم فى الاحتفال، تتمثل فى شركات المشروبات الغازية. وتشير الملصقات التابعة للحملة إلى رجل يفتح علبة أحد المشروبات الفوارة ويبتلع مشروب برتقال دسما، وفى المقابل، يتهكم مركز حرية المستهلك، وهو جماعة ضغط تمولها الشركات على الإرشادات التى توجهها الحملة، واهتمام المسئولين فى نيويورك بمشكلة البدانة. وتعتبر تلك الخطوة التى اتخذتها نيويورك واحدة من المبادرات التى اتخذتها هيئات حكومية فى الولاياتالمتحدة وعدد من بلدان العالم من أجل مواجهة مشكلة السمنة، وهو ما يرجع إلى تزايد إدراك المجتمع الدولى إلى الحاجة إلى مواجهة تلك المشكلة التى يتزايد القلق الذى تثيره يوما بعد الآخر. السمنة تُكلف الحكومات المليارات سنويا وتطرح هذه الجهود تساؤلات حول أفضل الطرق لمواجهة تلك المشكلة، وكيف يمكن لصناعة المأكولات والمشروبات التى تمثل جزءا من المشكلة منذ وقت طويل أن تصبح جزءا من الحل، خاصة فى الوقت الحالى، حيث يهدد التباطؤ الاقتصادى وما يترتب عليه من تخفيض فى الإنفاق بتقليص الإنفاق الحكومى على برامج مكافحة السمنة. ويمكن للجهود المكثفة فى هذا المجال أن تؤدى إلى جولة جديدة من إجراءات مراقبة هذه الصناعة. كما أن تدخل السياسة العامة فى هذه القضية ربما يشجع الناس على اتخاذ قرارات جذرية لمقاومة البدانة، مثل اللجوء إلى الجراحة. ففى بريطانيا التى أصبحت زيادة معدلات السمنة فيها تنبئ بقيام خدمة الصحة الوطنية بإنفاق نحو 50 مليار إسترلينى سنويا على مكافحة البدانة بحلول عام 2050 دعا جون بلاك، رئيس كلية الجراحين الملكية، إلى زيادة تركيب أحزمة المعدة التى يبلغ عددها حاليا فى بريطانيا 3600 حالة. وإذا قام واحد بين كل أربعة يحتاجون إلى هذه الأحزمة بتركيب حزام، فإن المكسب الصافى للاقتصاد سوف يبلغ 1.3 مليار إسترلينى فى ثلاث سنوات. ولم يؤثر تزايد معدلات السمنة بعد على التقدم الذى تحقق فى العقود الأخيرة بشأن ارتفاع متوسطات الأعمار. لكن علاج آثار البدانة يؤدى إلى رفع تكلفة النمو الاقتصادى. وترتفع معدلات الإصابة بالسكر وأمراض القلب والسكتة الدماغية بين مرضى البدانة. كما أن هذا المرض يرفع من معدلات الإصابة بالسرطان وأمراض الرئة والتهاب المفاصل. ويقول توماس فيرلى، مفوض الصحة فى نيويورك إن «تكاليف الرعاية الصحية المرتبطة بالسمنة هائلة، حيث تبلغ سنويّا 150 مليار دولار. وقد وصلنا إلى وضع أصبح فيه السكَّر جانبا طبيعيّا من جوانب الحياة الإنسانية». وقد أدخل فيرلى إجراءات للحد من البدانة تتضمن مراقبة السعرات الحرارية فى مطاعم نيويورك والتدخل فى التصميمات المعمارية من أجل التشجيع على استخدام السلالم بدلا من المصاعد فى المبانى الجديدة. ويشعر بالقلق نفسه الكثير من خبراء الصحة العامة الذين أيدوا بحماس حملة ميشيل أوباما، السيدة الأولى، للتشجيع على ممارسة التمارين الرياضية وتناول الأغذية الصحية. وقد جاءت حملة السيدة الأولى التى قالت إن اهتمامها بهذه القضية يرجع إلى اهتمامها بسلامة وزن ابنتيها فى وقت يكافح فيه الجيش الأمريكى من أجل الحد من البدانة بين المجندين. واحد من كل ثلاثة أمريكيين يعانى من البدانة خلال السنوات الثلاثين الماضية، زادت معدلات البدانة فى الولاياتالمتحدة إلى الضعف، ومن ثم أصبح واحدٌ من بين كل ثلاثة بالغين يعانى من البدانة. وفيما يتعلق بالأطفال، تزايدت معدلات البدانة بمعدل ثلاثة أمثال، وبما يزيد على 17% بين المراهقين. وفى ظل الركود الاقتصادى المتواصل منذ عام 2008، تشير الدلائل إلى تزايد مبيعات الوجبات الجاهزة، التى تعتبر رخيصة وغير صحية فى الوقت نفسه. ويقول توم فريدن، الذى كان يشغل منصب مفوض الصحة فى نيويورك قبل فيرلى، إن «هذا التطور يمثل مشكلة كبرى من مشكلات الصحة العامة، وهذه المشكلة تزداد سوءا دونا عن غيرها من مشكلات الصحة العامة». لكن البدانة، التى كانت تعتبر يوما ما مشكلة تخص البلدان المنهارة، أصبحت الآن تنتشر بسرعة فى الدول الفقيرة والدول المتقدمة صناعيّا على حد سواء. وتثير البدانة الكثير من القلق فى بلدان مثل الصين والهند والشرق الأوسط وبعض بلدان أمريكا اللاتينية. ويجرى حاليا اتخاذ العديد من المبادرات بغرض مواجهتها. وعلى المستوى العالمى، يوجد حاليا 1.6 مليار فرد يعانون من زيادة الوزن، من بينهم 400 مليون يصنفون باعتبارهم بدناء. وقد قررت الأممالمتحدة أن تعقد العام المقبل القمة الأولى من نوعها حول الأمراض غير المعدية، وسوف تكون مشكلة البدانة واحدة من الموضوعات المطروحة للنقاش فى المؤتمر. ويتفق معظم العلماء حول مسببات البدانة، ذلك أنه بينما تناقص النشاط الجسدى للإنسان بصورة كبيرة منذ حقبة الصيد والالتقاط، فإن استهلاكه للطاقة استمر ثابتا أو زاد، وبالرغم من سهولة زيادة الوزن، فإنه من الصعب إنقاصه بعد ذلك. ويشير عدد من الدراسات التى أجريت مؤخرا إلى ارتفاع نسبة المواليد الذين يعانون من البدانة لأمهات بدينات أو مدخنات. وقد أدت التغيرات الاجتماعية المرتبطة بالتصنيع والانتقال إلى المدن إلى التحول نحو نمط حياة أكثر راحة أدى إلى ارتفاع معدلات السمنة. لكنه بالرغم من أن هذه التوجهات حدثت على مدار أجيال عديدة، فإن مشكلة السمنة قد تفاقمت خلال الأعوام الثلاثين الماضية. ويشير كتاب صدر حديثا لديفيد كيسلر، الرئيس السابق لإدارة الأغذية والأدوية الأمريكية، إلى أن التوجهات الاجتماعية الحديثة أدت إلى انهيار نظام وجبات الأسرة الصحية والمنتظمة والمُعدة جيدا. ضريبة للبدانة فى أمريكا وينطبق بعض من هذه السمات على مجتمعات البلدان النامية، حيث تشير الدراسات إلى أنه فى الصين، التى تتبع سياسة المولود الواحد، يكافئ الوالدان طفلهما عندما يذاكر دروسه جيدا بإعطائه المزيد من الطعام، ومنحه المزيد من الوقت لممارسة الألعاب الإلكترونية، مما يؤدى إلى تزايد معدلات السمنة. وفى نيويورك وغيرها، كانت نتيجة هذا الوضع ارتفاع ثمن الفاتورة الصحية إلى جانب زيادة معدلات التغيب عن العمل، مما أدى بالمكاتب والشركات إلى اتخاذ تنظيم برامج لتحسين الحالة الصحية للعاملين. وقام البعض باتخاذ إجراءات صارمة. ففى ولايتى ألاباما ونورث كاليفورنيا، تقرر أن يدفع العاملون الرافضون للخضوع للفحص الصحى الدورى ابتداء من العام الحالى فصاعدا ما يشبه «ضريبة البدانة»، وذلك فى صورة زيادة أقساط التأمين الصحى التى يدفعونها. وبالرغم من الطفرة التى حققتها صناعة إنقاص الوزن، تشير الدلائل إلى أن معظم الأنظمة الغذائية لا تحقق الأهداف المرجوة فى الأجل الطويل. كما أن أدوية التخسيس تحقق نجاحا متواضعا. ويقول البروفيسور روسنر «إنه يحزننى كعالم، ولكن نتائج الأدوية المضادة للبدانة ليست رائعة جدا وليس لدينا الكثير الذى نقدمه للمرضى». لكن الصورة كلها ليست قاتمة تماما، ففى المؤتمر الدولى حول البدانة الذى عقد فى السويد فى يوليو الماضى أشار بعض الخبراء إلى أن نسبة البدانة بين الأطفال فى دول مثل فرنسا والمملكة المتحدةوالسويد قد بدأت فى الانخفاض لأول مرة. لكن ذلك لا ينفى أن معدل تزايد البدانة مازال فى ارتفاع، خاصة بين الفقراء. ويقول ديريك ياخ، المسئول عن سياسة الصحة العالمية فى شركة بيبسى التى تعهدت بتقليل السكر والدهون فى منتجاتها، إن هناك العديد من الجهود التى تبذلها الشركات، لكن الكثير من الحكومات لا تساند مثل هذه الجهود. يحذر تيم لوبستاين من الرابطة الدولية لدراسة البدانة، وهى مجموعة من المتخصصين: من أنه بالرغم من تلك العلامات، يظل الاتجاه نحو الارتفاع، خاصة بين الفقراء. وعلاوة على ذلك، كان الهبوط الاقتصادى فى الماضى يعقبه موجات جديدة من البدانة، وهناك من يشير إلى أن النمو المتباطئ يمكن المبالغة فيه لأن بعض الأطفال البدناء أو آبائهم لم يعودوا يتعاونون مع الدراسات ووزنهم كما فى الماضى. ولَّد برنامج إيبود الفرنسى اهتماما دوليا، بنجاحه الواضح المربوط بالقيادة السياسية القوية التى تشرف على مجموعة من المبادرات التى تتراوح بين التغذية المدرسية المحسنة والتخطيط المقصود بها التشجيع على أداء التمرينات الرياضية. إلا أن إيبود وليس برنامج «تغيير من أجل الحياة» البريطانى الأحدث هو الذى أنتج الكثير من المعلومات المنظمة التى جرت مراجعتها. ويجعل هذا من الصعب تقدير أثر المبادرات والتركيز على تلك التى لها فرصة أكبر من النجاح، خاصة، حين تُغرى الحكومات التى تكافح بإجراءات التقشف لتقليل برامج الوقاية سيكون لها عائد فورى قليل. من بين المخاوف الأخرى أثر صناعة المأكولات والمشروبات نفسها فى محاربة البدانة. ومن بين رعاة إيبود أورانجينا شويبس، وهى الشركة المنتجة للمشروبات التى تملها شركة سونتورى اليابانية، وكيلوج الأمريكية المنتجة للأغذية المصنوعة من الحبوب، وفيريرو الإيطالية المنتجة للشوكولاتة. أما رعاة «التغيير من أجل الحياة» فيشملون مارس، منتج الحلويات، وماكين شركة البطاطس المجمدة، وكلتاهما أمريكيتان، وبريتفيك وهى شركة بريطانية للمشروبات الخفيفة. ديريك ياك المسئول على سياسة الصحة العالمية فى شركة بيبسيكو الأمريكية، وهى شريك آخر فى «التغيير من أجل الحياة» تعهد بتخفيضات كبيرة فى السكر والملح والدهون فى منتجاته وإلغاء بيع المشروبات السكرية فى المدارس، يقول: «هناك الكثير من جهود الصناعة، لكن حكومات كثيرة لا تفكر الوقوف وراءها». فى الوقت نفسه، يشكك آخرون فى صدق نوايا شركات المأكولات والمشروبات فى التعاون لمواجهة مشكلة البدانة. ويشير هؤلاء إلى أن هذه الشركات لا تريد سوى تحسين صورتها ومنع الحكومات من اتخاذ إجراءات أكثر صرامة مثل وضع قيود على الإعلانات أو زيادة الضرائب عند زيادة الملح أو السكر فى الطعام. يقول تام فراى مدير المنتدى القومى للبدانة، وهو جماعة تتخذ من المملكة المتحدة مقرا لها «لقد حان الوقت كى تتعامل الحكومة مع الأمر بحزم. فهى موجودة كى تحكم، وليس لكى ترعى المصالح الخاصة». ومن المؤكد أن مبادرات تعزيز الصحة قد تبدو متواضعة بالمقارنة للاتجاهات المضادة، مثل التقدير الأخير من لجنة التجارة الفيدرالية القائل إنه فى الولاياتالمتحدة وحدها تنفق الشركات 1.6 مليار دولار فى العام على إعلانات الأغذية وحدها الموجهة للأطفال والمراهقين. وبالمثل ما زال هناك خلل بشأن البيانات التى تحملها العبوة عن المنتَج، حيث نجحت الصناعة هذا العام فى حشد التأييد لمنع البرلمان الأوروبى من الموافقة على نظام «إشارة المرور»، كما تدعو إليه وكالة معايير الأغذية البريطانية، لتحذير المستهلكين من المكونات الغذائية الأقل صحة. ويحل محله الخطوط الإرشادية الأكثر غموضا الخاصة بالكميات المسموح بها يوميا. وفى كل الأحوال، فإن النجاح فى التوصل إلى علاقة شراكة سليمة بين الحكومات وشركات الأغذية والمشروبات سوف تمثل واحدا من أهم الاختبارات على جدية الجهود الهادفة إلى الحد من مشكلة البدانة.