ما إن ينتهى موسم الشتاء من كل عام وتهدأ أمواج البحر المتوسط نسبيا، حتى يستأنف مسلسل «قوارب الموت» المتهالكة حاملة معها عشرات من الشباب من مختلف الجنسيات، ممن يجازفون بحياتهم بالسفر نحو المجهول، فمنهم من يغرق فى الطريق أو يعتبر فى عداد المفقودين، وقلة منهم تكتب لها النجاة، وتقوم قوارب حرس الحدود البحرية الأوروبية بشكل شبه يومى بانتشال بعضهم. بعد مصارعتهم الموت عدة ساعات، ويُطلق عليهم فى إسبانيا «ذوى الظهور المبتلة»، كإشارة للغرقى والناجين من المغاربة والأفارقة، الذين يحاولون التسلل بالقوارب عبر مضيق جبل طارق. ويسمون فى دول المغرب «الحراقة»، أى من يقومون بحرق جوازات سفرهم ووثائقهم ليحولوا دون إعادتهم إلى بلادهم!. ومن ينجح من هؤلاء المخاطرين بأرواحهم فى التسلل إلى أحد الشواطئ الأوروبية يعيش فى حالة من التخفى المتواصل لوجوده بشكل غير قانونى، ويعانون من ظروف اجتماعية واقتصادية قاسية خشية القبض عليهم، ولا يتمتعون بأى تأمينات صحية أو اجتماعية ويتعرضون للاستغلال والابتزاز، ويضطرون للعمل فى السوق السوداء بأى أجر وتحت أى ظروف. والغريب أن بعض المرحلين من هؤلاء يقدمون على هذه المخاطرة اليائسة أكثر من مرة، بحثا عن حلول فردية لمشكلاتهم المزمنة. وعندما تتكرر ظاهرة «قوارب الموت» وتتواصل على هذا النحو، فهذا يعنى أن هناك خللا ما فى المجتمع. فأين أجهزة الأمن فى دول الجنوب؟ وهى دول محكومة بقبضتها، وربما يعود ضعف متابعتها لهذه الظاهرة إلى تشتت مهامها بين أمن السلطة وأمن المواطن. وأين دور المجتمع المدنى والقوى السياسية والمئات من الجمعيات الأهلية التى يغلب على نشاط معظمها الوجاهة الاجتماعية والمواقف التجميلية والتبريرية لهذه الظاهرة، أكثر من اهتمامها بدراسة أسبابها الاجتماعية والاقتصادية والتوعية بمخاطرها وسبل تحجيمها. ولقد شهدت الهجرة غير القانونية أشكالا متعددة وأصبحت تدخل ضمن الجريمة المنظمة، وتقدر بعض المصادر عائدها ب12 مليار دولار سنويا، وأصبحت الثالثة فى الترتيب بعد تجارة المخدرات وتهريب السلاح. ولقد ظلت مصر لفترة طويلة بعيدة عن نطاق نشاط عصابات الإتجار بالبشر وبائعى الوهم، إلا أنه فى السنوات الأخيرة نتيجة عولمة الجريمة، امتد هذا النشاط لمصر. ونجحت هذه العصابات فى جذب أعداد متزايدة من الشباب المصرى، مقابل دفع مبالغ كبيرة لها يتم استدانتها، بعد أن أصبحت الرغبة فى السفر للعمل بالخارج تحتل مرتبة متقدمة وضاغطة على خياراتهم إلى درجة تدفعهم للمخاطرة بحياتهم. إن ما يدفع هؤلاء الشباب لهذه المخاطرة يعود للضغوط الاقتصادية والاجتماعية المتزايدة التى تواجهها دول جنوب المتوسط، ومحدودية الموارد المالية المتاحة للاستثمار لخلق فرص عمل جديدة، وهروب جانب مهم منها نحو الشمال نتيجة حالة عدم الاستقرار السياسى والاجتماعى. ومحصلة ذلك تزايد معدلات البطالة، فضلا عن شيوع النزعة الاستهلاكية التى تروج لها وسائل الإعلام دون توقف، وشيوع ظاهرة «المال السهل»، فى وقت تتراجع فيه قيم العمل المنتج. كل هذه العوامل وغيرها أفقدت شريحة كبيرة من الشباب الأمل فى المستقبل، وما مسلسل «قوارب الموت» إلا إفرازا ونتاجا لسلبيات مثل هذه المجتمعات وقيمها السائدة. وقد صدرت عدة فتاوى فى مصر والجزائر وغيرها تعتبر من يسافر بطريقة غير قانونية ويغرق فى البحر بأنه من «الطماعين» وليس «شهيدا»، لأنه ألقى بنفسه إلى التهلكة. ولكن مثل هذه الفتاوى التى أثارت ردود فعل عكسية لم تجد فى إقناع من يرغب فى ركوب «قوارب الموت» المهترئة بالعدول عن مخاطرته. وقد طالعنا أخيرا المشهد الحزين لغرق أحد قوارب الموت أمام السواحل الليبية، وكان على متنه عدد من المصريين والتونسيين والأفارقة التعساء، ولاتزال جثث الغرقى تطفو ويتم انتشالها بين الحين والآخر. ولا يتسع المجال للتعمق فى تحليل الأسباب الاجتماعية والاقتصادية لهذه الظاهرة، ولكن فى تقديرى أن هذا المسلسل الحزين سيتواصل ويستمر لفترة طويلة قادمة فى منطقتنا، لعدد من الأسباب فى مقدمتها: 1 أن هذه المنطقة شهدت عددا من الحروب المدمرة لم تشهدها أى منطقة فى العالم. فبجانب الحروب الإسرائيلية العربية المتعددة، وقعت أربع حروب إقليمية فى منطقة الخليج، أدت إلى توجيه جانب كبير من الموارد المالية لدول المنطقة نحو شراء الأسلحة، مما أثر سلبا على جهود التنمية، وأضعف القدرة على خلق وظائف جديدة وبأعداد كافية تواكب الزيادة الديموغرافية فى هذه المنطقة. وأدى إلى بروز ضغوط قوية للهجرة للخارج بشكل قانونى أو غير قانونى. 2 أن عددا من أصحاب رءوس الأموال العربية لايزالون يفضلون استثمار أموالهم فى دول الشمال، بعد أن عجزت دول الجنوب عن الاحتفاظ برأس المال الوطنى، نتيجة الحروب واضطراب الأوضاع السياسية، وعوامل عدم الاستقرار الناجمة عنها. ولم تستقطب دول الشرق الأوسط سوى 1% من كل الاستثمارات الخارجية. فإذا رأينا ان العرب الأغنياء يستثمرون أموالهم فى دول الشمال، حيث يخلق المال العربى وظائف جديدة فيها، فلماذا نستغرب أن تقتفى أثرها موجات من العمالة العربية العاطلة عن العمل فى بلادها، سواء بشكل قانونى أو غير قانونى. 3 بقاء المشكلات الإقليمية العالقة فى منطقة الشرق الأوسط وفى مقدمتها النزاع العربى الإسرائيلى لعقود طويلة، دون حلول عادلة وشاملة، يجعل هذه المنطقة تشهد موجات من الهجرة الإحلالية فى الأراضى العربية المحتلة، أغلبها من أصول أوروبية أو مزدوجى الجنسية، وبالمقابل شهدت نزوح موجات من الهجرة القسرية الفلسطينية، إضافة للموجة الناجمة عن الحرب الأمريكية على العراق، والتى أدت إلى هجرة قرابة أربعة ملايين عراقى. 4 نحن ندرك ما تسببه الهجرة غير القانونية للشمال من مشكلات، وقد نتفهم إجراءاته الأمنية المشددة على سواحله ومنافذه لتحجيم ظاهرة الهجرة غير القانونية. لكننا نتساءل: أليس الاتحاد الأوروبى مسئولا عن بعض مشكلات الشرق الأوسط، ولا يبذل جهدا كافيا لحلها، ويتبع الازدواجية فى المعايير، ولايزال يبنى نفسه اليوم كحصن متين ومنكفئ على ذاته. ويعالج مسألة العلاقة بين الشمال والجنوب كمسألة بوليسية أمنية، ولكن ذلك لن يقضى على ظاهرة الهجرة غير القانونية تماما، فقد تنخفض جزئيا ومرحليا ولكنها ستظل قائمة ما بقيت جذورها ودوافعها وحوافزها. وعلينا أيضا أن نتذكر أن جانبا من تيارات الهجرة من الجنوب للشمال ناجمة بشكل خاص عن فجوة التنمية بينهما، وارتفاع نسب النمو الديموغرافى فى الجنوب وتراجعها فى أغلب دول الشمال. وحدوث قدر من التعاون بين الجنوب والشمال يبدو ضروريا، وأن يتم فى إطاره تكثيف ومضاعفة الاستثمار الأوروبى فى دول الجنوب، بهدف تثبيت السكان المحليين فى مواطنهم الأصلية. خلاصة القول إن حل مشكلات الهجرة غير القانونية وإيقاف مسلسل «قوارب الموت» يمكن التوصل إليه من خلال التعاون المتبادل بين الشمال والجنوب، ضمن منظومة سلوك أخلاقية للحقوق والواجبات، يتم من خلالها معالجة جذور هذه المشكلة. وإلى أن يتم ذلك سيتواصل هذا المسلسل الحزين لقوارب الموت، الذى لا نعفى حكومات دول الجنوب عن جانب من مسئوليتها عنه، نتيجة سياساتها التنموية الفاشلة، والتوسع فى الخصخصة وتقليص الأبعاد الاجتماعية، وتراجع دور الدولة إجمالا فى التخطيط والتوجيه.