من أروع قصائد المدهش محمود درويش تلك التى كان يقول فيها «أحن إلى خبز أمى» ليت هؤلاء الوزراء الذين يستبسلون فى حرمان مصر من زرع القمح وخبز الأمهات يدركون قيمة أن تحيا على ما تنتجه بيديك، لكن المسافة بين هذا الحلم البسيط المشروع وبين الواقع المتهرئ هى ذاتها بين الشعر والشعير.. ولأنهم لا يحبون الشعر فإنهم يكرهون القمح، إلا المستورد منه. فى فترة رئاسة بيل كلينتون للولايات المتحدة كان نائبه آل جور فى زيارة إلى مصر وقرر أن يسافر لمشاهدة مشروع توشكى على الطبيعة، وسافر إلى هناك يرافقه وزير الرى المصرى فى ذلك الوقت الدكتور محمود أبو زيد، ولم يكن معهما صحفيون ولا إعلاميون على الطائرة وحين وصلا سأل آل جور الوزير أبو زيد ماذا أنتم فاعلون بهذه الأراضى فرد الأخير نخطط لزراعتها قمحا.. ابتلع آل جور الإجابة دون أن يعلق وبعد أقل من ساعة من العودة إلى القاهرة رن هاتف الوزير أبو زيد وكان المتصل وزير الزراعة واستصلاح الأراضى فى ذلك الوقت الدكتور يوسف والى ولم تخرج المكالمة عن توجيه سؤال غاضب: هل تحدثت مع نائب الرئيس الأمريكى فى زراعة توشكى بالقمح فرد أبو زيد: نعم فرد والى بصرامة طالبا من وزير الرى عدم الكلام فيما لا يخصه بعد ذلك، بالبلدى كده «ما تبقاش تتدخل فى اللى مالكش فيه تانى» مرة أخرى لم يكن هناك أحد على الطائرة التى أقلت الوزير ونائب كلينتون إلى توشكى سواهما، ولاحظ معى السرعة المذهلة التى عبر بها والى عن انزعاجه نقلا عن انزعاج آل جور. ما سبق حدث بالفعل وقد رواه لى مصدر محترم أثق فى أمانته ودقته كثيرا، وهو يكشف إلى أى حد لا تتسامح واشنطن مع أى تفكير مصرى فى مسألة الاكتفاء الذاتى من القمح، فقد تغض أمريكا الطرف عن محاولة امتلاك الطاقة النووية لكنها أبدا لا تتساهل مع من يحاولون امتلاك القمح بأيديهم. لكن المؤسف أن تنظيم «طلائع القمح» من المسئولين المصريين تعامل مع الرغبة الأمريكية باعتبارها القضاء والقدر ومن ثم لم يحاولوا شق عصا الطاعة العمياء، وبالتالى كان طبيعيا ألا يعمر أحمد الليثى فى موقعه كوزير للزراعة أكثر من سنة ونصف السنة، وكأنه كان مجرد غلطة مطبعية فى تشكيلات مصر الوزارية. وقارن بين ما حدث فى مصر وما جرى مع سوريا عام 1992 حين قررت دمشق أن تناور الأمريكان بعد ضمهم لها إلى قائمة محور الشر.. ماذا فعل حافظ الأسد؟ وفقا لما عرفته من وزير زراعة مصر المستبعد عقابا على تفكيره فى اكتفاء ذاتى من القمح أحمد الليثى استدعى الرئيس السورى علماء الزراعة فى بلاده وطلب منهم البدء فورا فى وضع وتنفيذ خطط للاستغناء عن مليون ونصف المليون طن قمح كانت تستوردها سوريا من أمريكا سنويا.. وبالفعل بعد ثلاث سنوات كانت سوريا قد اكتفت ذاتيا من القمح وصار لديها فائض للتصدير بعضه استوردته مصر فى صفقات تبادلية. إذن المسألة باختصار هى إرادة سياسية، وتربية أخلاقية، ووطنية تزرع فى الوجدان قيما نبيلة كأن تأكل من زرع يديك حتى وإن كان الشراء أسهل، هى مسألة كرامة واعتزاز بالوطن تعلى الحقل على السوبر ماركت وتعتبر الإنتاج عبادة. والحديث موصول