«كان هناك صياد ذهب إلى الأحراش ليقتل قردا. لم يكن قد أمضى فى البحث إلا دقائق قليلة عندما رأى قردا جالسا بهدوء على فرع شجرة واطئة. لم يهتم به القرد على الإطلاق، ولا حتى وهو يسمع خطوات قدميه على الأوراق الجافة ترتفع وتنزل وهو يقترب. وعندما اقترب مسافة كافية، اختبأ خلف شجرة بحيث يستطيع رؤية القرد بوضوح، رفع بندقيته وصوبها. وقبل أن يجذب الزناد، تكلم القرد قائلا: إن أطلقت النار علىّ، فسوف تموت أمك، وإن لم تطلق فسوف يموت أبوك.. فماذا تفعل لو كنت الصياد؟». سؤال صعب ختم به إشمائيل بيه مذكراته «الطريق الطويل.. مذكرات صبى مجند» التى ترجمتها الأديبة والمترجمة سحر توفيق، والصادرة، أخيرا، عن دار الشروق ومؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم، وصعوبة السؤال لا تقل عن صعوبة ورعب المذكرات التى تحكى قصة شديدة الألم والقسوة لصبى من سيراليون هو إشمائيل بيه نفسه الذى شارك فى الحرب الدائرة فى بلده سيراليون «جبال الأسد». وارتكب العديد من جرائم القتل، وهو فى الثالثة عشرة من عمره، وبعد ثلاث سنوات من العنف والحرب الأهلية والقتل أنقذته اليونيسيف من ساحات الحرب، ثم انتقل إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية ليكمل دراسته الثانوية فى مدرسة الأممالمتحدة الدولية فى نيويورك، وتخرج فى كلية أوبرلين، وهو الآن عضو فى اللجنة الاستشارية لحقوق الإنسان، قسم مراقبة حقوق الأطفال. الأديبة سحر توفيق التى ترجمت المذكرات سألتها: ما الذى دفعك لترجمة هذه المذكرات؟ فأجابت: سمعت عن هذا الكتاب من بعض الأصدقاء فى الولاياتالمتحدة؛ لأنه أثار ضجة كبيرة، وسعدت حين عرضت علىّ دار الشروق ترجمة هذا العمل الذى يدخل فى قلب مشكلة مرعبة ألا وهى تجنيد الأطفال فى الجيوش وبين صفوف المتمردين. ورغم أن الكتاب تسجيل لأحداث واقعية حدثت بتفاصيلها، فإنها مذكرات مكتوبة بعذوبة شديدة تجعل القارئ يعتقد أنها رواية، فهى «مروية باقتدار وصدق يمزق القلب!»، كما جاء على الغلاف الخلفى للكتاب الذى تُرجم لأكثر من 22 لغة ولاقى نجاحا كبيرا بل هو دائما على قوائم الأكثر مبيعا. ومع أن المذكرات تحكى عن الحرب الأهلية فى سيراليون وقتل براءة الأطفال بتجنيدهم فى الجيوش والحركات الانقلابية فنجد أن إشمائيل بيه كان دائما يميل إلى الموسيقى والرقص حتى فى أوقات القتل كان يسمع الموسيقى أو هذا ما كان يتمناه، فأكدت سحر توفيق أن هذا يرجع لأمرين، أولا هو طفل، وظل طفلا حتى بعد أن قام بالقتل الذى وجد نفسه يدفع إليه دفعا فى البداية، حتى فى قمة انغماسه فى أعمال العنف التى وجد فيها متنفسا، وتصور أن ذلك هو تجسيد للقوة أو الرجولة أو الوطنية أو أى مقولات أخرى تبرر القتل، حتى وهو فى هذه الذروة كان لايزال طفلا، والأمر الثانى أن الموسيقى والغناء يجسدان روح الشعوب، خاصة فى أفريقيا. وقد حرص الكاتب على إظهار ذلك، وأضافت: هل تذكر مشهد الأتوبيس عندما بدأ شخص يغنى ويرقص ثم راح الركاب جميعا يرقصون، هذه روح شديدة العفوية والبراءة، وهذا ما أراد الكاتب أن يقوله لنا، إنه رغم أن بلاده مليئة بأعمال العنف الكريهة، إلا أن شعبها لايزال شعبا يتسم بالبراءة والعفوية، وأن حب الموسيقى والغناء، بل والرقص، دليل لا يعادله دليل على ذلك. كما أن الكاتب أشار إلى حقيقة مهمة، وهى أن هؤلاء الأطفال من الممكن إعادة تأهيلهم، ويمكن أن يستعيدوا براءتهم، لو صلحت الأحوال، ولو توافر من يساعدهم على ذلك. ولنرجع إلى إجابة إشمائيل بيه عن سؤاله: ماذا تفعل لو كنت الصياد؟، «عندما كنت فى السابعة من عمرى كانت لدىّ إجابة عن هذا السؤال تبدو معقولة بالنسبة لى، ولكنى لم أناقش هذه الإجابة مع أى شخص، خشية أن أؤذى أحاسيس أمى. قلت لنفسى إننى لو كنت الصياد، فلسوف أقتل القرد حتى لا تكون لديه فرصة لإيقاع صيادين آخرين فى نفس الورطة مرة أخرى».