هم الآن يشعرون بالقلق إزاء الشرخ المتزايد بين تركيا وإسرائيل على الرغم من أنهم لم يكشفوا أبدا الأسس الكامنة وراء ذلك الصدع، وسرعان ما يسمونه خلافا بين تركيا والولايات المتحدة. ومع ذلك، فهذا العمود هو فريدمان الكلاسيكى: «من الصادم للغاية أن نعود اليوم لنجد حكومة تركيا الإسلامية تركز فيما يبدو، ليس على الانضمام إلى الاتحاد الأوروبى وإنما إلى الجامعة العربية لا، بل الانضمام إلى جبهة حماس حزب الله للمقاومة ضد إسرائيل». وهذه مبالغة سخيفة، بل إن فريدمان يعترف بذلك فى توقيعه بطريقة الحروف المتفرقة. ولا تتمثل خطيئته بدرجة كبيرة فى مبالغته (التى هى سيئة بما يكفى) بقدر ما تتمثل فى تبسيطه لحقائق معقدة وهو تبسيط يؤدى إلى التحليل السيئ والاستنتاجات الخاطئة. وكما أشرت من قبل، هناك صعوبات ناشئة فى العلاقات الأمريكية التركية، وهى تتطلب اهتماما عاجلا. ويستلزم ذلك البدء بنوع من النقد الذاتى من جانب مؤسسة الخارجية الأمريكية بشأن تعاملها مع العلاقات التركية، كما تحتاج لبناء فهم أعمق للقوى التى تعمل فى تركيا اليوم. وهذه القوى مثيرة للقلق بالفعل. فهى تضعف التفهم التاريخى الذاتى للعلمانية التركية. لكن ليس واضحا بشكل كامل بعد إلى أين تتجه هذه القوى. ومن أجل فهم أفضل لهذه الديناميات أوصى بالاستماع إلى صوتين تركيين. الأول هو الروائى التركى الكبير أورهان باموك. وهو ناقد حاد للقوى التى أوصلت أردوغان حزب العدالة والتنمية إلى الصدارة، وقام بتصويرهما على نحو رائع فى أعمال روائية له مثل «الجليد»، التى قد تكون أكثر الصور إقناعا للساحة السياسية التركية الحديثة. ولكن إذا أردت الحصول على تحليل سياسى تقليدى، فأنا أتوجه إلى عمر تاشبينار، وهو محلل فى معهد بروكينجز، ويقول إن السياسة الخارجية التركية تتطور إلى ما يشبه فرنسا فى عهد ديجول: «ومن المفيد تأمل هذا الشعور التركى الجديد بالثقة فى الذات، والوطنية، والعظمة، وخيبة الأمل فى الشركاء التقليديين كأمريكا وأوروبا وإسرائيل باعتباره «ديجولية تركية». فإذا كشفت السطح عما يبدو أنه انقسام بين التوجهات العلمانية والإسلامية إزاء الغرب، فسرعان ما ستجد أن كلا مما يسمى المعسكر الإسلامى والمعسكر العلمانى يتبنى الفكرة نفسها فى مواجهة أوروبا وأمريكا، وهى الإحباط الوطنى. وتعتبر العقبات الجديدة فى وجه الانضمام إلى الاتحاد الأوروبى، والظلم المتصور فى قبرص، وتنامى الاعتراف العالمى بالمذبحة الأرمنية، والتعاطف الغربى مع التطلعات القومية الكردية؛ جميعها عوامل رئيسية تدفع الأتراك إلى التشكك فى قيمة التزاماتهم الجيوستراتيجية الموالية للغرب منذ فترة طويلة». وكنت أقول حتى سنوات مضت إن النخب الكمالية الموالية للغرب تبادلت المواقع مع الإسلاميين الذين كانوا يميلون من قبل إلى الشرق، على أساس أن حزب العدالة والتنمية كان يبدو أكثر اهتماما بالحفاظ على علاقات وثيقة مع أوروبا والولايات المتحدة. وحزب العدالة والتنمية فى رأيى، كان بحاجة إلى الغرب أكثر من حاجة النخبة الكمالية لسبب بسيط، وهو أنه كان بحاجة إلى أن يثبت للجيش التركى، وللشريحة العلمانية من المجتمع فى الداخل وللشركاء الغربيين فى المجتمع الدولى أنه ليس حزبا إسلاميا. غير أنى أعتقد الآن على نحو متزايد أن حزب العدالة والتنمية أيضا، قرر أن يركب موجة خيبة الأمل القومية من الغرب. وعلاوة على هذا، فهو أقوى تيار مجتمعى فى تركيا، كما أن رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان بحاجة إلى الفوز بالانتخابات. وكما أوضحت الأحداث، على أمريكا وأوروبا الاهتمام بالنزعات الديجولية فى تركيا. وفى الماضى، كان الأمريكيون والأوروبيون كثيرا ما يتساءلون عما إذا كان لدى تركيا أية بدائل جيوبوليتيكية واقعية، ويطمئنون أنفسهم بعدم وجود هذه البدائل. لكن هذه البدائل اليوم بدأت تبدو أكثر واقعية بالنسبة للعديد من الأتراك. وليس بالضوروة أن يكون صعود الديجولية جاء بالكامل على حساب أمريكا وأوروبا. ولكن الأتراك يسعون بالفعل وراء الفرص الاقتصادية والاستراتيجية فى روسيا والهند والصين، وبطبيعة الحال فى الشرق الوسط وأفريقيا. لقد حان الوقت كى يتوقف المحللون الأمريكيون عن تضخيم الانقسام الإسلامى العلمانى فى السياسة الخارجية التركية، والاهتمام بدرجة أكبر بما يوحد المعسكرين، وهو القومية التركية. وأعتقد أن تاشبينار محق. ذلك أن أردوغان وحزبه العدالة والتنمية بحاجة إلى الغرب، وبوجه خاص الاتحاد الأوروبى، كوسيلة لتدعيم قبضتهما على السلطة فى أنقرة. وكان عليهما بحث أحد أهم موروثات الكمالية، وهو دور الجيش كضامن للنموذج العلمانى الكمالى. وقد استخدما ببراعة فكرة الانتماء للاتحاد الأوروبى، وعملية كوبنهاجن بالكامل لإضعاف الجيش كقاعدة أساسية للسلطة الكمالية غير الديمقراطية، مع التأييد القوى من الأوروبيين الذين يبدو أنهم لم يفهموا بوضوح التداعيات الداخلية الواسعة لهذه العملية فى تركيا. والآن، وبعد انتفاء المخاطرة بأن يحل الجيش محل حزب العدالة والتنمية سواء بانقلاب حاد أو ناعم (والأخير عبر قرار بحظر مشاركة الحزب وشخصياته الرئيسية فى الساحة السياسية) سوف تظهر الأجندة المباشرة لسياسة حزب العدالة والتنمية على الساحة الخارجية. وهى أجندة محافظة، وقومية، وحافلة بالأصداء المميزة للعصر العثمانى الذهبى. ويريد قادة حزب العدالة والتنمية تكريس أنفسهم كقوة إقليمية، خاصة ضمن أراضى الامبراطورية العثمانية القديمة. وهم لا يقترحون القيام بذلك عسكريا، وإنما باعتبار تركيا قائدة أخلاقية (من منظورهم). ولم تتحدد بعد تفاصيل هذه السياسة بوضوح، ولكن هناك احتمالا واضحا لظهور خلاف مع أهداف السياسة الأمريكية خاصة أهداف المحافظين الجدد. غير أن الدبلوماسية الذكية يمكنها أن تحدث فارقا، وهناك الكثير من حسن النية المتبادل بين الأتراك والأمريكيين يمكنهم قيادة هذه الدبلوماسية. نقلاً عن هاربرز مجازين Harper`s magazine