عندما كنت فى عطلة بمناسبة عيد البلوغ اليهودى (البات متسفاه) الخاص بابنتى، قتلت إسرائيل تسعة ناشطين فى المياه الدولية، كانوا على متن سفينة متوجهة إلى غزة. وأثارت هذه العملية الخرقاء ضجيجا دوليًّا، وحالة من البحث عن الذات بين اليهود. وهكذا سيطرت حالة الغضب فى الشرق الأوسط على مسار حياتى خلال الأيام الأخيرة، حيث ظللت أتنقل بين القنوات، مشاهدًا النشرات الإخبارية التى تذاع على مدار اليوم، فى الوقت الذى كان فيه الفرح الشخصى يتجسد من خلال التقليد اليهودى الذى يعود إلى آلاف السنين. وسوف أحاول تأمل هذه الحالة هنا. غالبًا ما تتباين عوالمنا الخارجية والداخلية. ونحن نفعل كل ما فى وسعنا للتوفيق بينهما من خلال الحيل اليومية التى نقوم بها.. ونادرًا ما انتابنى شعور على هذا الوضوح بكراهية السياسى وسلوى الروحانى. كان اعتراض إسرائيل لسفينة مافى مرمرة وطاقمها المؤلف من عناصر مختلفة بهذه الطريقة الدموية عملاً فظًا وهو يُعد مثالاً آخر لردود الفعل العنيفة الناجمة عن استخدام القوة. لكن ليس هناك ما يبرر التصريح الغاضب الذى أدلى به رئيس الوزراء التركى بأن «ما يجرى يجعل الناس تعتقد بأن نجمة داود باتت تشبه الصليب المعقوف». كان على رجب طيب أردوغان، الزعيم المتشدد الذى أضفى على تركية كمال أتاتورك العلمانية صبغة إسلامية، وميلاً إلى التطلع نحو الشرق، أن يكون واعيًا وهو يشير إلى النازيين عند التحدث عن دولة نشأت من رماد يهود أوروبا. تعتبر إسرائيل دولة ليبرالية ديمقراطية، تقع أسيرة طريق مسدود من احتلال مفسد أخلاقيًّا عمره 43 عامًا، وهو ما يجعل من استخدام القوة بمثابة أسلوب العمل التى تتبناه هذه الدولة. لقد تضافرت العديد من العوامل لدفع هذا البلد نحو اليمين، وهو التطرف الدينى من جانب المستوطنين اليهود، ونسيان الأزمة الفلسطينية الكامنة وراء أسوار الحصار، والنزعات المستوردة من روسيا التى تحرض على كراهية العرب. لكن إسرائيل لا تزال دولة ليبرالية ديمقراطية، وهو البلد الذى يتميز بمستوى من الانفتاح والجدل لا نجده فى أى مكان آخر فى الشرق الأوسط. ويجب أن يتم الاعتراف بذلك على نطاق أوسع. من جانبها، يجب أن تدرك إسرائيل قبل فوات الأوان أن الخطر الحقيقى الذى تواجهه اليوم لا يتعلق باحتمال تدميرها، بل بنزع الشرعية عنها. ولا تعبِر التوجهات التكتيكية التى تتبعها إسرائيل التى غالبًا ما تتسم بالعنف عن أية استراتيجية. وقد أدت هذه التوجهات إلى تآكل مكانة إسرائيل. وعندما كنت أتحدث مؤخرًا مع سفير إسرائيل فى إحدى دول غرب أوروبا، شكا من أنه نادرًا ما يستطيع دخول أية جامعة هناك هذه الأيام. والجامعات تعبير عن المستقبل. لعل السبيل الوحيد أمام إسرائيل كى تستعيد شرعيتها هو إنهاء الاحتلال، وتطبيق حل الدولتين، حيث تكون إسرائيل وطن الشعب اليهودى، وفلسطين وطن الشعب الفلسطينى. لكن إسرائيل لا يمكنها القيام بذلك بمفردها. ويجب على الدول العربية العاجزة اتخاذ خطوات إلى الأمام. لكن إسرائيل لن يمكنها أبدًا القيام بذلك فى ظل الاستسلام العميق والأهوج لنهجين مروعين، هما تصوير نفسها كضحية واستخدامها القوة فى الوقت نفسه وهما نهجان مروعان لأنهما يسببان العمى ويجرى إدمانهما. ويأتى قسم متزايد من الضباط الإسرائيليين فى قوات الدفاع الإسرائيلية من أسر المستوطنين والأسر المتشددة دينيًّا. وتهاجر عقليات تل أبيب العلمانية إلى أوروبا والولايات المتحدة كلما كان ذلك ممكنًا. ولا تبشر الصهيونية الفاسدة هذه بالخير بالنسبة لإسرائيل التى تحتاج إلى حلقات دراسية مكثفة فى السيطرة على نفسها. ليس حصار غزة بالأمر الصعب. لكن الحصار يعمل بالطبع على إنعاش اقتصاد الأنفاق الذى تسيطر عليه حماس. فهل يعتبر ذلك نوعًا من الذكاء؟ هل تعتبر هذه استراتيجية؟ لقد استطاع اليهود البقاء لأنهم استخدموا عقولهم. وتأسست إسرائيل استنادًا إلى القيم اليهودية التى جرت مناقشتها وتنقيتها عبر قرون. وقبل أن تنشد ابنتى أديل مقطعًا من التوراة، وأمامها المخطوطات المقدسة، أشار الحاخام أندى باتشمان من جماعة بيت ألوهيم فى بروكلين إلى صورة من صور الفكر الصوفى فى التوراة هى «النار السوداء بعد النار البيضاء». تتمثل هذه الفكرة فى أن عالم الرب هو النار، أو قل النار المزدوجة، وإنك سوف تتجمد إذا ابتعدت عن النار بمسافة كبيرة جدًا، وسوف تحترق إذا اقتربت منها كثيرًا. وقال باتشمان إن «عالم الرب يمكن بالفعل أن يدمرك إذا اقتربت منه أكثر مما يجب». وحيث يدور فى عقلى الصدى الخافت لجميع الاتهامات والاتهامات المضادة التى تتردد فى الشرق الأوسط، ترن فى أذنى تلك الكلمات بشأن خطورة الحماسة المفرطة. ثم قرأت أديل من المخطوطة، وأخذ صوتها النقى وعقلها الشاب وتلك الأصوات القديمة المنبعثة من الصحراء الجميع بعيدًا عن العبارات القذرة التى يستخدمها الساسة. وكان جزء التوراة الذى تقرأه يتعلق بتمرد قورح والعقاب الهائل الذى أنزله الله على قومه. وقالت فى الكلمة التى ألقتها بها بعد ذلك، «اعتقد أن الرب لم يفهم أن التمرد لم يشارك فيه الجميع، بل قورح وأتباعه فحسب، لأن الرب ليس إنسانًا، ولم يفهم كيف يعمل الجنس البشرى. لكن موسى وهارون كانا يدركان ذلك لأنهما بشر. وفى رأيى أن ذلك هو السبب الرئيسى الذى جعل الرب يخلق موسى وهارون، كى يساعداه على فهم الجنس البشرى وفى تسوية النزاعات بطريقة عقلانية وهادئة». وأطلقت ابنتى على عقاب الرب القاسى «قرارًا متسرعًا». واعتبرت أن اليهودية تبدأ بتعليمنا أن الرب والبشر معًا يمكنهما أن يكونا شركاء فى الحفاظ على بعضهما البعض فى حالة من الهدوء والتعقُل». لا أزعم أن الفتاة ذات الاثنى عشر عامًا بوسعها حل مشكلات الشرق الأوسط، لكن المسافة بين الحكمة الكامنة فى المكان المقدس وبين عبارات القتال التى يرددها الطغاة فى إسرائيل وفلسطين فى العصر الحديث وهى العبارات التى تقترب من النار أكثر مما يجب تعتبر هائلة، إلى الحد الذى يجعلها تمثل خيانة رهيبة للشباب وأمانيهم فى المقام الأول.