اختار من العناوين التالية الأقرب لما حدث. هجوم إرهابى غادر على شاطئ بوندى بأستراليا، يوقع عشرات اليهود بين قتيل وجريح فى عيد النور اليهودى! مواطن أسترالى شجاع هاجم أحد الإرهابيين، وانتزع سلاحه، وأنقذ أرواح عشرات الأستراليين من مجزرة مروعة على شاطئ بوندى بأستراليا. مواطن أسترالى مهاجر من أصول عربية ينزع السلاح من يد إرهابى، وينقذ أرواح عشرات الأستراليين من هجوم إرهابى على شاطئ بوندى. مواطن أسترالى مسلم من أصول عربية ينزع السلاح من يد أحد الإرهابيين وينقذ أرواح العشرات من يهود أستراليا. هذه ليست مجرد عناوين لتوصيف ما حدث، وإنما إطار يصنعه من ينقل الخبر، طبقًا لمفاهيم وانحيازيات تخدم أهدافه، وإذا كان لديك بعض الشك فى ذلك، راجع ما قاله نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلى فى اللحظات الأولى للحادث. لقد أراد صياغة المشهد بأنه اعتداء إرهابى ضد اليهود، فوقع فى الخطأ وقال إن البطل الذى تصدى للهجوم هو يهودى شجاع، حتى تبين أنه أحمد الأحمد! واحدة من المعضلات التى فعلها أحمد الأحمد أنه انتزع مضمون وسياق القصة من الإطار الذى اشتعل لفترة قصيرة بعد وقوع الحادث مباشرة. فلم يعد التركيز على الهجوم، بل على الشخص الذى منع فداحة الهجوم، والذى كان من المتوقع أن يسفر عن عشرات القتلى والجرحى، ولكنه توقف عند رقم 16، علمًا بأن القتيل رقم 16 هو أحد منفذى الهجوم. هذا التحول فى القصة أفقد الرواية الإسرائيلية التقليدية الكثير من بريقها. فلو كان الهجوم على اليهود بيد مسلم، فإن الذى أنقذهم ليس يهوديًا بل مسلمًا أيضًا. لذلك اضطر نتنياهو للثناء على المسلم الشجاع الذى حمى اليهود. • • • معضلة أخرى صنعها الأحمد، عبر هجومه وهو أعزل على إرهابى يحمل السلاح، وذلك دون الاكتراث للتبعات، والتى على رأسها أنه يمكن أن يتحول هو نفسه من بطل إلى ضحية، فى لمح البصر، بمجرد ملاحظة الإرهابى أن ثمة شيئًا ما يتحرك من خلفه. وهنا يعود بنا الأحمد إلى مفاهيم التضحية، والإيثار والإقدام، وبذل النفس نصرة للضعيف أو دفاعًا عن الضحية. وهى أمور تكاد تختفى عن عالمنا المادى المعاصر، ذى الإيقاع السريع، الذى لا يتوقف أو يلتفت لمثل هذه الأمور، إلا عن طريق الصدمات. بالرغم من شجاعة الأحمد، لكن السياسة لن تتوقف كثيرًا أمام فعله البطولى إلا لوقت قصير جدا. والمعركة الآن تدور حول استثمار هذا الهجوم ضد الجهة التى تستهدفها إسرائيل. ولقد بادرت -بالفعل- بتأنيب أستراليا، وتذكيرها بأن اعترافها بفلسطين هو ما تسبب فى وقوع هذا الهجوم. وكأن الإرهابى كان ينتظر هذا الاعتراف ويعتبره ضوءًا أخضر للهجوم على اليهود فى أستراليا. علمًا بأن عدم اعتراف أستراليابفلسطين هو سبب أدعى لتنفيذ الهجمات على أراضيها. ثم تأتى إيران فى المرتبة الأهم، حيث تتهمها إسرائيل دائمًا باستهداف مصالحها فى الخارج، لا سيما فى أستراليا نفسها، حيث وقع هجوم فى مدينة ملبورن، على كنيس يهودى وتم حرقه فى يوليو الماضى، فأتهمتها إسرائيل على الفور بالوقوف خلف الهجوم. ومن ثم، تجدد الاتهام لإيران، مباشرة بعد هجوم بوندى بالاستناد على أمرين، الأول هو دوافع إيران للانتقام بسبب حرب الاثنى عشر يومًا، والتى بلغت ذروتها فى الهجوم الأمريكى الإسرائيلى المشترك على برنامجها النووى. والثانى، أن أحد منفذى الهجوم فى بوندى، أستأجر محل إقامته قبل عام بجانب الشاطئ الذى شهد الهجوم، وكان منزله يقع بالقرب من الجسر الذى وقف عليه هو والمنفذ الثانى، الذى اتضح أنه والده، ما يعنى وجود ترتيبات طويلة لمثل هذه العملية، وليست مجرد هجوم عابر. لذلك تتهم إسرائيل الحرس الثورى بالوقوف خلف هذه الهجمات. • • • فى المقابل، توجد نظرية حاضرة دائمًا فى كل الأعمال الإرهابية التى تنال من إسرائيل، وهى أن معظم هذه العمليات أو الكثير منها تقترفه أو تحركه أو تدفع به إسرائيل نفسها، وذلك لأنها الجهة التى تحصد أكبر النتائج فى نهاية المطاف. فهى تصنع صورة المظلومية، التى تعرف كيف تستعملها لتحقيق الكثير من أهدافها السياسية. كما تضع أعدائها فى خانة المعتدين الخارجين على القانون والأعراف الدولية، وتشوه صورتهم وتوصمهم بالغدر والإرهاب. وهذا بالضبط ما تنطوى عليه الحروب الحديثة أو حروب الجيل الخامس، فهى لا تقتصر على استعمال الجيوش والمواجهات العسكرية، وإنما هى حروب تستغل كافة الوسائل المتاحة لهزيمة الخصوم وتحقيق الأهداف والمصالح السياسية. لذلك تسعى إسرائيل لاستغلال أى حدث يمس اليهود عبر العالم، لكى تردد نفس المقولات التى تتبناها طيلة الوقت، بأنها المكان الأكثر أمانًا لليهود فى العالم، وأن أى انتقاصًا من مكانتها عبر الاعتراف بدولة فلسطين يعرض أمنها وأمن اليهود فى العالم للخطر. لذلك ظهور أحمد الأحمد ودفاعه عن اليهود فى أستراليا، لا سيما بعد كل مجازر إسرائيل فى غزة، يفشل استراتيجية إسرائيل، ويفند ادعاءاتها بخصوص مفهوم الأمن الذى توفره. • • • معضلة أخرى يفجرها أحمد الأحمد، وهى خاصة بالدين وعلاقته بالدوافع وراء تنفيذ الأعمال الإرهابية. فلو أن الدين يبرر الإرهاب، فهل هو أيضًا نفس الدين الذى يحرم الاعتداء ويدعو إلى التضحية بالنفس من أجل حماية الآخرين؟ إذا كان المنفذ مسلمًا، وسمحت له مفاهيمه عن الدين بارتكاب هذه الجريمة، فإن الذى تصدى له يعتنق نفس الدين، وسمحت له مفاهيمه بالتضحية بالنفس دفاعًا عن الآخرين لوقف هذه الجريمة. مثل هذا الحوار لا يجب أن يفوت عن أصحاب الرأى الذين يريدون معالجة موضوع الإرهاب من جذوره، لا سيما أن الدول والمجتمعات الإسلامية تعانى من وباء الإرهاب أكثر من أى دول أو مجتمعات أخرى. لكن أين سيجرى هذا الحوار؟ لاحظ مثلًا أن منفذى العملية أصلهم باكستانى، وهى دولة تعانى من عشرات الهجمات الإرهابية طيلة الوقت، كان أخطرها فى شهر أبريل الماضى، بعدما تسبب هجوم إرهابى فى مقتل 25 سائحًا هنديًا فى كشمير، فأدى ذلك لاندلاع مواجهة بين الهندوباكستان استمرت لأيام. لكن منفذى العملية لم ينطلقا من باكستان، وإنما أحدهما وهو الابن وُلد فى أستراليا، والآخر الأب، وفد إليها لإقامة ابنه هناك. الاثنان كانا فى الفلبين قبل شهر من تنفيذهما الهجوم الإرهابى. وستكشف التحقيقات عن نشاطهما فيها ومقابلتهما، والتى قد يتبين منها الكثير. فمن يقف وراء منفذى العملية أهم من المنفذين! وذلك لأن الإرهاب العابر للدول لا يأتى من قبل منفذين فرادى وإنما يقف وراءه تنظيم، أما رد الفعل الإنسانى السوى هو ما قام به الأحمد. ملاحظة ختامية عن فكرة الإرهاب الذى تقترفه الدول. فلقد رأينا كيف استعمل قادة إسرائيل الدين فى الحرب الأخيرة على غزة، وإسقاطهم مفاهيم مثل العماليق من الكتاب المقدس على شعب فلسطين تسمح بقتلهم وإبادتهم. لذلك نسأل، هل يمكننا المطالبة بمراجعة المناهج التى أفرزتهم؟