- الرئيس الأمريكي وضع فيينا المحايدة في قلب مشروع أمريكي كبير لتفكيك الاتحاد الأوروبي - الخارجية النمساوية: متمسكون بأوروبا الموحدة.. والوثيقة جرس إنذار لتقوية الأمن الأوروبي
لم يكن إدراج النمسا في النسخة المطوّلة من استراتيجية الأمن القومي للرئيس الأمريكي دونالد ترامب حدثًا عابرًا؛ فوفق منصة "ديفنس وان"، تُذكر النمسا إلى جانب المجر وإيطاليا وبولندا كدول ينبغي "تعزيز التعاون معها" لتهيئة خروجها المحتمل من الاتحاد الأوروبي. ورغم أن النسخة الرسمية المنشورة لا تتضمن هذه الإشارات المباشرة، فإن إطارها العام يقدّم صورة قاتمة لأوروبا: تراجع في حرية التعبير، مسار هجومي للهجرة، و"انحدار حضاري" يهدد مستقبل القارة. وفي المقابل، تمتدح الوثيقة القوى اليمينية في أوروبا وتدعو لدعمها في مواجهة "المسار الليبرالي" للاتحاد. هذا التحول في الذهنية الاستراتيجية الأمريكية يجعل من النمسا، رغم صغر حجمها، نقطة ارتكاز حقيقية في رؤية واشنطن لإعادة تشكيل أوروبا من الأطراف؛ فالنص المسرّب يضعها ضمن مجموعة الدول الأكثر قابلية للانفصال سياسيًا عن بروكسل، ما يدفع إلى سؤال مباشر: لماذا النمسا تحديدًا؟ النمسا بين أوروبا الموحّدة وأمريكا الشعبوية أول أسباب الاهتمام الأمريكي بالنمسا يعود لطبيعة المشروع الترامبي نفسه؛ إذ ورث فريق ترامب رؤية قديمة لبعض دوائر اليمين الأمريكي، ترى الاتحاد الأوروبي منافسًا سياسيًا ونموذجًا مقيدًا للطموحات الأمريكية. هذه المدارس الفكرية، من "هيريتيج فاونديشن" إلى منظّري "Project 2025"، تعتبر الاتحاد الأوروبي كيانًا فوق وطنيًا يحد من السيادة الوطنية ويهدد الزعامة الأمريكية؛ وبالتالي، فإن إضعاف التكتل عبر تشجيع القوى القومية داخله يصبح جزءًا من استراتيجية بنيوية طويلة الأمد (وهذه المقاربة تقريبا تتطابق مع رؤية بوتين للاتحاد الأوروبي). النمسا هنا حالة مثالية: دولة محايدة، غير عضو في الناتو، وبها حزب يميني شعبوي هو حزب الحرية (FPÖ) تربطه علاقات وثيقة باليمين الجمهوري الأمريكي، قيادات من الحزب حضرت فعاليات يمينية في نيويورك، وتحدثت علنًا عن إعجابها بالرئيس ترامب. والأهم حصل الحزب على المركز الأول في الانتخابات البرلمانية الأخيرة في 2024 (29,1 %) ويكتسح استطلاعات الرأي منذ ثلاثة أعواد، ولم يحكم لعدم التوافق مع بقية الأحزاب... كل هذا يجعل واشنطن ترى في النمسا دولة "قابلة للشد" داخل الاتحاد، أو على الأقل حلقة رخوة يمكن الاستثمار فيها ضمن مشروع أوسع لتقليل التماسك الأوروبي. أما السبب الثاني، فيعود للمكانة المؤسسية لفيينا على المسرح الدولي؛ ففيها المقر الوحيد للأمم المتحدة داخل الاتحاد الأوروبي وفيه الوكالة الدولية للطاقة الذرية، بجانب منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، و"أوبك"، ومنصات متعددة للحوار الدولي. هذه العقدة الدولية تجعلها مركزًا حساسًا لأي توازنات كبرى في ملفات النووي الإيراني، وأمن شرق أوروبا، والطاقة. ومن ثم، فإن أي اهتزاز في موقع النمسا ضمن المنظومة الأوروبية يفتح ثغرة واسعة في قدرة الاتحاد على التحدث بصوت واحد. رد فيينا: رفض الوصاية وزارة الخارجية النمساوية تحركت بسرعة لنفي وجود أي نقاش حول الخروج من الاتحاد الأوروبي الذي يرمز له بعبارة "Öxit"، مؤكدة أن النمسا "راسخة في الاتحاد الأوروبي وستبقى كذلك". كما رفضت تشخيص واشنطن بأن أوروبا في "انهيار حضاري"، ووصفت الوثيقة بأنها "جرس إنذار" لتقوية الأمن الأوروبي، لا سببًا للتخلي عن الاتحاد. في البرلمان، اتهمت وزيرة الخارجية بياته ماينل–رايسينجر حزب الحرية (FPÖ) بتبنّي خطاب يخدم قوى خارجية، محذّرة من خطورة تحويل النمسا إلى منصة لمعاداة الاتحاد. وفي المقابل، رحّب FPÖ بالاستراتيجية الأمريكية معتبرا أنها تكشف "فشل بروكسل". هذا السجال يوضح ديناميكية حساسة: فبينما تُصرّ الحكومة على تثبيت الانتماء الأوروبي، يبقى اليمين الشعبوي بوابة محتملة لأي اختراق أمريكي. مع ذلك، تدرك النخبة السياسية في فيينا أن الخروج من الاتحاد الأوروبي ليس احتمالًا واقعيًا، وأن التحدي الحقيقي ليس الخروج من الاتحاد بل تفادي صورة الدولة المترددة أو الهشة سياسيًا، التي قد تُقرأ في بروكسل أو واشنطن كهدف قابل للضغط أو الاستثمار. أوروبا: الشريك المربك لا الخصم الكامل ردود الفعل الأوروبية على استراتيجية ترامب تكشف حالة اضطراب. فالدنمارك ذكرت لأول مرة في تقرير أمني أن الولاياتالمتحدة "تستخدم قوتها الاقتصادية كسلاح حتى ضد الحلفاء"، وعبّرت عن شكوك في استمرار دور واشنطن كضامن نهائي للأمن الأوروبي. أما المستشار الألماني فريدريش ميرتس، فرفض اتهامات واشنطن لأوروبا بأنها "تهدد الديمقراطية"، معتبرًا أنها "غير مقبولة". ورغم هذا التوتر، تواصل بروكسل التشديد على مركزية التحالف مع واشنطن. فقد أكدت كايا كالاس، رئيسة الدبلوماسية الأوروبية، أن الولاياتالمتحدة تبقى "الحليف الأكبر"، داعية إلى التركيز على الملفات المشتركة مثل أوكرانيا وإيران والصين. هذا الخطاب المزدوج – رفضٌ لفظي للاتهامات، وتمسك بالتحالف الأمني – يعكس ضعف البدائل الأمنية الأوروبية في المدى المنظور. ولكن ما يثير القلق هو أن واشنطن لم تعد تتحدث عن أوروبا ككتلة واحدة، بل كخريطة من الدول يمكن "فرزها" إلى صديقة ومشكوك فيها ومعادية. ويظهر في هذا السياق مشروع أمريكي موازٍ يعمل على بناء شبكة يمينية أوروبية – من حزب البديل لأجل ألمانيا AfD في ألمانيا، إلى FPÖ في النمسا، إلى فصائل قومية في فرنسا وإيطاليا – لتكون أدوات ضغط على الاتحاد من الداخل. ماذا يعني هذا للنمسا تحديدًا؟ تظهر النمسا اليوم كحالة اختبار حقيقية في التوازن بين مشروعين: مشروع تفكيكي أمريكي يستند إلى تحالف مع اليمين الشعبوي، ومشروع تكاملي أوروبي يحاول حماية وحدته أمام الضغوط. وقد يكشف دور النمسا في هذا الاشتباك عن ثلاثة مسارات: الأول: أن ذكرها في وثيقة أمريكية كمرشح ل"فك الارتباط" مع الاتحاد ليس مجاملة، بل نتيجة هشاشة سياسية داخلية مصدرها قوة اليمين الشعبوي وعلاقاته العابرة للأطلسي. ثانيًا، أن تأكيد الخارجية النمساوية على "الترسخ في الاتحاد" يعكس إدراكًا عميقًا لخطورة أي تردد؛ فالنمسا، بحكم الحياد وتشابكها الاقتصادي مع أوروبا الوسطى، ستدفع ثمنًا مضاعفًا لأي إضعاف للاتحاد. ثالثًا، أن قوتها الحقيقية تكمن في تحويل حيادها التاريخي إلى أداة توازن بين واشنطنوبروكسل، دون السماح بأن تتحول إلى "نقطة ضغط" في يد أحد الطرفين. في الخلاصة تقول استراتيجية ترامب، المعلنة والمسرّبة، إن واشنطن لم تعد تتعامل مع أوروبا كحليف موحّد، بل كقارة ينبغي إعادة توزيع ولاءاتها عبر دعم القوى القومية وتفكيك مركزية بروكسل. وفي هذا المشهد، تصبح النمسا صغيرة الحجم كبيرة القيمة؛ فهي ساحة اختبار لقدرة أوروبا على حماية وحدتها، ولقدرة الدول المتوسطة على الصمود أمام استقطاب أميركي–أوروبي متصاعد. وإن نجحت فيينا في تثبيت موقعها الأوروبي وتفعيل حيادها كرافعة دبلوماسية، يمكن أن تتحول من "حلقة ضعيفة" في نظر واشنطن إلى عنصر توازن داخل القارة. أما إن سمحت بانزلاق خطابها الداخلي إلى مناطق التشكيك بمشروع الاتحاد، فقد تجد نفسها - من حيث لا تريد - جزءًا من لعبة دولية أكبر من حجمها، تتجاوز حدودها السياسية إلى حدود مستقبل أوروبا نفسها.