خلال متابعتي لبرامج التحليل الكروي التليفزيونية بعد هزيمة منتخبنا الوطني في مباراة السودان وإخفاقه في الوصول إلى كأس العالم 2010 بجنوب أفريقيا تذكرت مثلا ألمانيا رائجا، ربما له نظائر في لغات أخرى، يقول "بعد الحدث... أنت دائما أذكى." أكثر السادة خبراء الكرة، على إعجابي بمهارة الشرح والتحليل لدى بعضهم كفاروق جعفر لاعب نادي الزمالك السابق ومدرب طلائع الجيش الحالي، من الحديث عن الأخطاء الفنية والتكتيكية التي وقع بها مدرب المنتخب حسن شحاتة والجهاز المعاون وكذلك اللاعبون، متناسين أن مثل هذه المباريات العصيبة لا حسابات لها وأن تقييمهم لأداء المنتخب كان سيختلف 180 درجة إن كان قد تمكن من الفوز. كمواطن مصري يحب الكرة ويعشق المنتخب وتألم لهزيمته، تمنيت أن يعطينا الخبراء درسا في الروح الرياضية وتقبل الهزيمة، بتهنئة المنتخب على مشواره الجيد في تصفيات كأس العالم وشكر اللاعبين والجهاز الفني والإداري على الجهد الكبير الذي بذلوه جميعا. ما افتقدته على شاشاتنا من ممارسة للروح الرياضية بعد مباراة السودان، وجدته ذات المساء على أحدى القنوات الأوروبية التي تناولت في برنامج كروي مباراة أخرى في تصفيات كأس العالم جمعت بين منتخبي فرنسا وأيرلندا، وأخفقت على أثرها الأخيرة في التأهل نتيجة هدف فرنسي غير صحيح أعد بعد لمسة يد واضحة من لاعب فرنسي (تيري هنري). انتقد المعلق الأيرلندي قرار حكم المباراة احتساب الهدف رغم المخالفة الواضحة، إلا أنه لم يثر ثورة عارمة ولم يطالب الفيفا بإلغاء الهدف وإعادة المباراة. فقط اكتفى بالنقد الهادئ ووجه التهنئة لمنتخب بلاده على الأداء وشرف المحاولة وأعتذر منه المعلق الفرنسي، وإن على استحياء. وليت الأمر توقف عند غياب الروح الرياضية عن شاشاتنا التليفزيونية وتجاهل شكر المنتخب رغم الهزيمة. فقد حدث للأسف ما توقعه الكثيرون بعد حملات الكراهية المتبادلة التي أدارها الإعلام غير المسئول في مصر والجزائر وبعد اعتداء بعض المتعصبين في مصر على حافلة المنتخب الجزائري قبل مباراة القاهرة وأعمال العنف في الجزائر ضد المصريين والمصالح المصرية. فاتسم أداء المنتخب الجزائري في مباراة السودان بالعنف الشديد تجاه اللاعبين المصريين، بعض ما قام به لاعبو الجزائر خاصة بلحاج وغزال أثناء المباراة كان أقرب للمصارعة منه إلى كرة القدم، واعتدى متعصبون جزائريون على الجماهير المصرية بعد المباراة. والحقيقة أن الإعلام غير المسئول في مصر والجزائر ما كان له أن ينجح إلى هذا الحد في تسميم الأجواء المحيطة بمباريات المنتخبين وصناعة ما يشبه بحالة الهستريا الجماعية في الأيام الأخيرة لولا قابلية قطاعات واسعة في المجتمعين للتعصب والتعامل بشوفينية مع الشعور الوطني، وهو ما خلطه البعض بسطحية خطيرة برغبة الجماهير المصرية والجزائرية في إظهار حبها وانتمائها للوطن والالتفاف الجماعي حول علمه ورموزه. لن أسهب في الحديث هنا، فقد كتبت منذ أيام في الحياة اللندنية عن القابلية للتعصب وإنكار الآخر وسبل علاجهما كأمراض مجتمعية توطنت في العديد من البلدان العربية. فقط أقول أن التشدق بخطاب مستهلك حول أخوة العرب ومصيرهم الواحد وعدوهم المشترك لن يجدي نفعا في ظل واقع عربي معاش ينطق قبل أي شيء آخر بالخلاف والشقاق بل والتناحر، وأن من الأفضل أن نبدأ داخل كل مجتمع بالاعتراف بوجود القابلية للتعصب والتطوير الواعي لأدوات تربوية وتعليمية وإعلامية للحد منها. ينبغي أخذ حالة الهستريا الجماعية التي شاهدناها في الأيام الأخيرة إن في مصر أو الجزائر بجدية، فتكراراها علامة خطر واضحة وجوهرها التصعيدي ينذر بعواقب وخيمة. في اليوم التالي لمباراة السودان تابعت التغطية الصحفية المصرية والجزائرية والعربية بوجه عام للمباراة وذهلت من العسكرة والتديين البالغين للغة المستخدمة. وكأن كل ما حدث قبل المباراة وأثنائها وبعدها لم يكن بكافيا، فخرجت علينا صحف ومواقع صحفية إلكترونية بعناوين من قبيل "عنتر يحيى يغتال أحلام المصريين ويصعد بالجزائر إلى المونديال" و"الجزائر تصرع الفراعنة بهدف وتتأهل إلى المونديال"، وأخرى بمانشيتات مثل "الله أكبر... ظهر الحق وزهق الباطل" (من الصحافة الجزائرية المحتفية بفوز منتخبها) و"تفاصيل الحرب الجزائرية على مصر" و"قدر الله .. وما شاء فعل" (من الصحافة المصرية المنددة بعنف بعض المتعصبين الجزائريين والحزينة على خروج المنتخب). لا أعلم أين يتلقى مثل هؤلاء الإعلاميين تدريبهم المهني، ولا كيف يقبل رؤساء ومجالس تحرير الصحف المعنية نشر هذه العناوين، إلا أنني على يقين من أن عسكرة وتديين التنافس الرياضي، وبغض النظر عن درامتيكياته أحيانا كما في حالة مباراة السودان، هو دليل وجود أزمة عميقة في الإدراك العام، وغياب للقدرة على التعامل بموضوعية ورشادة مع ما يحدث لنا وحولنا كمجتمعات عربية. والأمر هنا يختلف عن توظيف بعض المصطلحات العسكرية في الإعلام الأوروبي في معرض التعليق على مباريات كرة القدم، والمصطلح الأكثر شيوعا في هذا الصدد في اللغتين الإنجليزية والألمانية على سبيل المثال هو الموقعة (Battle أو Schlacht). فنحن في عالمنا العربي أمام منظومة صحفية تتجاهل إلى حد بعيد التنافس الرياضي وتنفي بالتبعية جوهره السلمي، و يترتب على هذا الأخير التعامل بروح رياضية متزنة ومتسامحة مع النتائج.