حين تلقيت في 10 أكتوبر 2009 النبأ الحزين برحيل الدكتور محمد السيد سعيد، امتنعت عن توظيف المساحة الصحفية المتاحة لي للاحتفاء التأبيني بالراحل العزيز، وقررت أن أحتفي به في مقالي الأخير بالعام الحالي مستلهما في ذلك طقوس بعض الحضارات القديمة وعادات نفر من بشر اليوم في زيارة قبور موتاهم وتجديد وداعهم والدعاء لهم في ختام عام أوشك على الانقضاء. وزيارتي اليوم للدكتور سعيد رحمه الله تأتي رمزية وفكرية الطابع وحدودها هي التراث الرائع من الأفكار والأعمال الذي تركه لنا في مصر والعالم العربي. والحقيقة أن الكتابة عن الدكتور سعيد ليست أبدا بالمهمة اليسيرة إن فكريا أو وجدانيا. فدوما ما نظرت له كأستاذ ملهم وعالم سياسة جليل ومناضل حقوقي من الطراز الأول ليس لي في حضرة كتاباته الأكاديمية والصحفية التي اتسمت بثراء وعمق استثنائيين سوى موقع القارئ الشغوف والتلميذ المنصت. حظيت كذلك خلال الأعوام الماضية بتواصل لم ينقطع مع الدكتور سعيد سمح لي بالتعرف على شخصيته الرقيقة الراقية وبإنسانيته الملتزمة بهموم الوطن والعالم، وهو ما وضعني دوما ويضعني اليوم مجددا في مأزق صعوبة الفصل بين الانبهار بشخص الكاتب والإعجاب الموضوعي بأفكاره وأعماله. مأزق إضافي ألفيت به نفسي حين إعداد هذا المقال هو تحدي الإلمام المنظم بكتابات الدكتور سعيد الأكاديمية والصحفية التي اتسمت منذ السبعينيات بعمق وثراء استثنائيين، وهو ما اعتبرته شرط ضرورة لتناولها بالجدية الفكرية والدقة المنهجية التي تستحقهما قامة الدكتور سعيد رحمه الله. وليعذرني أهل وأصدقاء وأحباء الراحل العزيز على تواضع نتاج تجديد الزيارة لبعض من أفكاره وأعماله، تحديدا تلك المتعلقة بقضايا حقوق الإنسان والديمقراطية، والذي أضمنه ما بالأسطر التالية من ملاحظات وإشارات. ولي في استماح عذرهم حق التلميذ العارف بقدر أستاذه وحق الحريص على التذكير بتراثه. أول ما يستدعي النظر حين قراءة كتابات الدكتور سعيد هو قدرته الفائقة على طرح قضايا حقوق الإنسان على المستويات المحلية والإقليمية والدولية، دامجا في هذا السياق الملاحظات النقدية حول حالة الحركة الحقوقية العربية، وكذلك حول أدوار القوى الخارجية والمؤسسات الدولية بالتحليل التفصيلي لوضعية حقوق الإنسان في مصر. فكتب العزيز الراحل أكثر من مرة راصدا التطور التاريخي للحركة الحقوقية العربية ورعيلها الأول المتمثل في جيل الأربعينيات والخمسينيات ثم رعيلها الثاني، جيل السبعينيات، الذي عاد له الفضل في مأسسة الحركة في شكل جمعيات ومنظمات مدافعة عن حقوق الإنسان وله انتمى الراحل كابن لجيل السبعينيات المصري. وعلى الرغم من أن الدكتور سعيد دوما ما تعرض لمعضلات الحركة الحقوقية العربية، وفي مقدمها غياب الإنجاز في ظل هيمنة السلطوية العربية وإخفاق الحركة بجمعياتها ومنظماتها في إكساب قضايا حقوق الإنسان الجماهيرية التي تستحقها وتحتاجها للتحول إلى قوة ضاغطة على نخب حكم سلطوية غير راغبة في التزام احترام كامل لحقوق الإنسان وحرياته، إلا أنه أبدا لم يتجاهل الإشارة إلى الإيجابيات التي تحققت في بعض المجتمعات العربية. وقد ارتبطت أبرز تلك الإيجابيات في قراءته بالتوعية العامة التدريجية بحقوق الإنسان مبادئها، والربط في النقاش العام بين انتهاكات حقوق الإنسان واستمرار تعثر الديمقراطية والتنمية بين ظهرانينا، ووضع العرب على خريطة الحوار العالمي حول حقوق الإنسان والنضال من أجلها في أرجاء المعمورة المختلفة. فند الدكتور سعيد كذلك الاتهام الرائج للحركة الحقوقية العربية بزعم أنها مهمومة فقط بحقوق الإنسان السياسية وحرياته المدنية وتعمد لتجاهل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية. واستند دفاعه هنا في كتابات أكاديمية وصحفية عديدة إلى رصد بيانات ومواقف جمعيات ومنظمات حقوق الإنسان المدافعة عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين في الدول العربية، ومحاولاتها في عدد من الدول العربية للانفتاح على النقابات العمالية والتنظيمات المهنية، والاشتراك معها في طرح المطالب المشروعة للفقراء ومحدودي الدخل وغيرهم من القطاعات الشعبية الضعيفة. إلا أنه وبجرأته الفكرية المعهودة لم يتوان عن توجيه النقد البناء للحركة الحقوقية على خلفية ما رصده من تراجع نسبي في اهتمامها بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية خلال الأعوام الماضية، محذرا من عواقب ذلك في مجتمعات ترتفع بها معدلات الفقر وتتحول بها الفجوة بين الأغنياء والفقراء إلى هوة سحيقة. ذات المزيج في الطرح بين النقد الكاشف والواقعية الموضوعية ميز أيضا الكتابات التي تناولت أدوار القوى الخارجية والمؤسسات الدولية في الدفع نحو أو في تعويق تطور حقوق الإنسان في العالم العربي. ركز الدكتور سعيد في أكثر من محطة زمنية خلال الأعوام الماضية على كارثة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، وانتهاكات سلطات الاحتلال الواسعة لحقوق الإنسان الفلسطيني، وتواطؤ الغرب بقيادة الولاياتالمتحدة مع تل أبيب بحمايتها من تطبيق قرارات الشرعية الدولية وحماية حكامها من الملاحقة القضائية الدولية. بيد أن توجيه النقد المشروع للغرب على تواطئه مع إسرائيل، وكذلك لازدواجية معاييره في التعاطي مع مجمل قضايا حقوق الإنسان في العالم العربي الذي يربطه بحكامه السلطويين مصالح إستراتيجية وسياسية واقتصادية، لم يحل دون انتصار الراحل على نحو مبهر فكريا وسياسيا لمعنيين ساميين لحقوق الإنسان على الصعيد الدولي؛ الأول هو القيمة الكبرى لمبادئ حقوق الإنسان التي تحويها المواثيق والعهود الدولية ودورها في صياغة ضمير البشرية وتثبيت النضال من أجل حقوق الإنسان كمشترك أعظم بين شعوب العالم المختلفة، والثاني هو الرأي العام العالمي الذي اعتبره الدكتور سعيد يتطور ليدرك مأساة ازدواجية المعايير التي أوقعت، ومازالت، العرب في فلسطين وكذلك في العراق ولبنان في شراكها وأعطت إسرائيل وآلتها العسكرية حماية لا تستحقها. ومن ثم طالب بأهمية أن تستمر جمعيات ومنظمات حقوق الإنسان العربية والجماعة المثقفة في التواصل مع الرأي العام العالمي لشرح حقيقة أوضاعنا ودعوته للتضامن الفعال معنا. ثم أكمل الدكتور سعيد، بصفاء ذهني وجراءة فكرية يحسد عليهما، انتصاره لمبادئ حقوق الإنسان حين تناول أبعادها الإقليمية والدولية، كما تتبدى في العالم العربي برفض عسكرة الحركة الحقوقية العربية ومطالبته باعتماد إستراتيجيات وأدوات الكفاح السلمي والنضال المدني في مواجهة انتهاكات حقوق الإنسان والانطلاق دوما من أخلاقية الدعوة لحقوق الإنسان. طوع الراحل هنا مفهوم "الأنسنة" ليطالب بالتزام حركات مقاومة المحتل وجمعيات ومنظمات الدفاع عن حقوق الإنسان على امتداد العالم العربي بالمبادئ العالمية لحقوق الإنسان في فعلها وعدم الانسياق نحو عسكرة كاملة أدواتها. أما مصر التي شغلت أوضاعها وأوجاعها عقل ووجدان الدكتور سعيد، فعالجت كتاباته قضايا حقوق الإنسان بها على نحو هدف إلى التحليل التفصيلي لمسألة إخفاق مصر على عراقة دولتها واستقرار الهوية الوطنية بمجتمعها في إنجاز التحول نحو الديمقراطية ومن ثم ضمان احترام حقوق الإنسان. تنوعت مستويات النظر والمقاربات "السعيدية" للحالة المصرية وامتزج بها الكلي بالجزئي والطرح الموضوعي الناقد بالأسى الشخصي في خليط إنساني مبهر لكيفية عشق الوطن وتمني نهضته وتقدمه ثم التألم لتراجعه أو مراوحته في مكانه. تناول الدكتور سعيد بالتحليل البيئة التشريعية والقانونية المقيدة للحريات ولحقوق الإنسان في مصر، كما فصل في شرح معوقات المنافسة السياسية المتمثلة في هيمنة النخبة وفساد قوانين الانتخابات وتلاعب الأجهزة الأمنية بها. وفي حين ساعدته مطالبة بعض القضاة المصريين باستقلال الجهاز القضائي عن السلطة التنفيذية على التذكير بأولوية التوازن والرقابة بين السلطات، حذر قوى المعارضة مدنية ودينية من الانسياق وراء سياسة فرق تسد الحكومية التي برعت في ضرب الإسلاميين بالأحزاب الليبرالية واليسارية ثم الانقضاض على هؤلاء للحد من دورهم السياسي وتهميشهم. على كل هذه الأصعدة حاول العزيز الراحل، بنضاليته التي أبدا لم يتخلى عنها، تجاوز مجرد تحديد وتوصيف أسباب التعثر المصري باتجاه التفكير المنظم حول إستراتيجيات وسبل العلاج. فرتب هذا الاهتمام الأصيل بنهوض وتقدم مصر دراسات تفصيلية جمعت بين علاجات المدى الطويل والعلاجات الآنية، بين بحث من جهة في دور تعليم مستند إلى قيمة النقد الذاتي في بناء جيل مصري يؤمن بحقوق الإنسان والديمقراطية وحتمية الاستمرار في النضال الحقوقي في مصر على الرغم من محدودية الإنجاز ثقة في انتصار مبادئ حقوق الإنسان في نهاية المطاف، وسعي حثيث من جهة أخرى إلى تفعيل المعارضة لنخبة الحكم السلطوية بدعوة أحزابها وحركاتها إلى التوافق على أجندة وطنية للإصلاح الدستوري والسياسي والكف عن التناحر فيما بينها وتبني قيم مواطنة الحقوق المتساوية والضغط من أجل ضمان نزاهة العمليات الانتخابية. حمل الدكتور محمد السيد سعيد للنقاش حول حقوق الإنسان في مصر والعالم العربي بحثه الذي لم ينقطع عن سبل النهوض والتقدم ومزج القناعة الليبرالية بأولوية الحق والحرية والديمقراطية بالتزام ابن اليسار المصري والعالمثالثي بالدفاع عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين وحد أدنى من العدالة الاجتماعية وقضايا التحرر الوطني. حمل العزيز الراحل أيضا أدواته المعرفية والمنهجية، النقد الذاتي والجراءة الفكرية والربط بين الأبعاد الداخلية والإقليمية والدولية للظواهر محل النظر والتحليل، إلى الحركة الحقوقية المصرية والعربية ولم يتوان عن تبيان نواقصها والتشديد على حتمية البدء بالإصلاح الداخلي في المجتمعات العربية قبل لوم وتقريع الأخر الخارجي. وأبدا لم يغير الدكتور سعيد تموضعه المزدوج كناشط يناضل من أجل حقوق الإنسان والديمقراطية ومثقف يسعى لنشر مبادئها. والحصيلة هي تراث رائع ومعين لن ينضب من الأفكار والأعمال خيطه الناظم هو الدعوة للنضال السلمي من أجل حقوق الإنسان والديمقراطية كسبيل وحيد لأنسنة السياسة والمجتمع في مصر والعالم العربي. في ختام العام الذي غادرتنا به أجدد لك الدعاء بالرحمة أيها الأستاذ العزيز والمناضل الرقيق، ولمصر والعرب بأن يقدر لهم الله من بين المدافعين عن حقوق الإنسان والديمقراطية من قد يقترب من صفاء ذهنك وسمو فكرك ورقي إنسانيتك.