تمر ذكرى ميلاد عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، اليوم 15 نوفمبر، والذي وُلد في عزبة الكيلو بمحافظة المنيا عام 1889. عاش طه حسين طفولته بين التأمل والعزلة قبل أن يفقد بصره في سنوات عمره الأولى، غير أنّ هذا لم يعقه عن النهل من العلم والفكر، لتكون رحلته إلى أوروبا لاحقًا من أبرز محطات حياته وأكثرها أثرًا في تشكيل مشروعه الأدبي والفكري. -أصبهان.. عبور العميد من الإسكندرية إلى مارسيليا وفي يوم 14 نوفمبر 1914 يبحر الفتى من الإسكندرية، ومعه أخٌ له يعينه على أمره. وكانت السفن تعبر البحر من الإسكندرية إلى مارسيليا في 4 أيام، بينما عبرته السفينة الصغيرة التي سافر بها – وهي سفينة فرنسية متواضعة كان اسمها "أصبهان" – متمهلة ومتأرجحة دائمًا على أمواجه في 8 أيام. وما إن دخل الفتى إلى غرفته في السفينة وسمع الجرس المؤذّن بقرب إقلاعها "حتى خرج من جبته وقفطانه، وتخفف من عمامته، ودخل في ذلك الزيّ الأوروبي. وشغله دخوله في ذلك الزي عن إقلاع السفينة واندفاعها في طريقها، هادئة أول الأمر، مضطربة بعد ذلك أشد الاضطراب"، وذلك كما ورد في كتاب: "طه حسين.. الإنسان والمشروع" لصبري حافظ، الصادر عن دار المعارف. -من جبة الأزهر إلى زي الأوربيين ويكمل الكتاب، والواقع أن خلع الثوب الأزهري هنا استعارة دالة أخرى عن وعيه بضرورة أن يستقبل حياته الجديدة في فرنسا بزيّ جديد، وعقل جديد، وعن استعداده للبدء في حياته الجديدة تلك مفتوح العقل والقلب. لأنه يعي أهمية ما هو مقبل عليه، من طريق جديد وطويل مع العلم والمعرفة، وهو الطريق الذي كرّس سنوات طويلة من حياته قبل تلك اللحظة لتحقيقه. - بين المجاورين ومونبلييه.. الشقاء والترف ويستقبل الفتى حياته في مدينة مونبلييه في أواخر شهر نوفمبر 1914 سعيدًا بها إلى أقصى ما تبلغ السعادة، راضيًا عنها كأحسن ما يكون الرضا، فقد حقق أملًا لم يكن يقدّر أنه سيحققه في يوم من الأيام. وكان كثيرًا ما يعزز شعوره بتلك السعادة بمقارنة بداية حياته في فرنسا – التي لا يحس فيها جوعًا أو حرمانًا، وتُعرَض عليه فيها ألوان مترفة رقيقة من الطعام في غير تقتير ولا تضييق – بتلك البدايات التي عاشها بين الأزهر و"حوش عطا" في منطقة المجاورين، حيث تشقى نفسه في الأزهر، ويشقى جسمه ونفسه في حوش عطا حياة مادية ضيقة عسيرة كأقسى ما يكون الضيق والعسر، وحياة عقلية مجدبة فقيرة كأشد ما يكون الإجداب والفقر، ونفس مضيعة بين عسر الحياة المادية وفقر الحياة المعنوية". أما الجانب المعنوي في حياته الجديدة، فحدّث ولا حرج، كان أفضل من الجوانب المادية المترفة، وأوسع أبوابًا. لأنه ما إن يذهب إلى الجامعة ويحضر دروس الأدب والتاريخ واللغة الفرنسية فيها، حتى يدرك أنه "لا يسمع درسًا إلا أحس أنه قد علم ما لم يكن يعلم، وأضاف إلى علمه القديم علمًا جديدًا". وهو الأمر الذي يسعده بحق، ويدفعه إلى أن يأخذ نفسه مأخذ الشدة. لأنه لم يمضِ عليه شهر، أو أكثر قليلًا، في مونبلييه حتى كان قد سُجل في جامعتها.