مرت منذ أيام قليلة الذكرى الستون لاختفاء الزعيم والسياسى والمناضل والمفكر المغربى والعربى والإفريقى والعالم الثالث الكبير المهدى بن بركة، والذى تم اختطافه بواسطة رجال شرطة فرنسيين من أحد مقاهى العاصمة الفرنسية باريس فى يوم التاسع والعشرين من أكتوبر من عام 1965، ولا يعرف بالضبط تاريخ اغتياله بعد اختطافه، بل ولم يعرف حتى الآن على وجه الدقة أين دفن جثمانه الكريم، بل إن بعض المراجع التى تتحدث عنه تعتبره حتى الآن فى عداد «المفقودين»! ومن الهام للغاية تعريف النشء والشباب على الصعيدين المصرى والعربى بالأهمية التاريخية والأدوار الوطنية والقومية والديمقراطية والتقدمية التى لعبها ذلك الزعيم والمناضل الكبير على مدار حياته القصيرة بمعدلات الزمن المعروفة لدينا والثرية والعميقة بمعدلات الأثر الذى تركه معنا والتأثير الناتج عن كفاحه الدءوب وجهوده المتواصلة. فذاكرة الأمم وإرادة الحياة فيها تنتعش وتحيا بإحياء ذكرى رموزها الوطنية والقومية وبجعل هؤلاء هم النماذج التى يحتذى بها الشباب والنشء ويجعلوا منها نبراسا ومنارة لحياتهم ومستقبلهم. ففى سن الرابعة والعشرين، وتحديدا فى 11 يناير من عام 1944، وبعد أن كان المهدى بن بركة أحد أصغر مؤسسى حزب «الاستقلال» المغربى سنا، وهو الحزب الذى يعود الفضل إليه فى قيادة نضال الشعب المغربى الشقيق لنيل استقلاله الوطنى وإجلاء المستعمر الفرنسى عن أرضه، وقع مع آخرين من قادة الحزب على وثيقة عرفت تاريخيًا ب «إعلان استقلال المغرب»، وهو الأمر الذى أدى إلى اعتقاله من قبل سلطات الاحتلال الفرنسية لأكثر من عام، ولكنه خرج من المعتقل ليكون أحد مؤسسى جريدة «العلم» التى أصدرها حزب الاستقلال فى عام 1946، وينسب إليه الكثيرون أنه من كتب للسلطان آنذاك، الملك فيما بعد استقلال المغرب، محمد الخامس خطابه الشهير فى أبريل 1947 المعروف ب «خطاب طنجة»، والذى أعلن فيه السلطان مطالبته باستقلال المغرب ووقوفه بجانب الحركة الوطنية فى بلاده. وبلغ حجم دوره النضالى الوطنى فى سبيل استقلال بلاده المغرب إلى الحد الذى أدى بالجنرال الفرنسى «ألفونسو جوان» إلى أن يصفه آنذاك بأنه «العدو رقم (1)» لفرنسا فى المغرب، وهو الأمر الذى أدى إلى وضعه قيد الإقامة الجبرية فى عام 1951، وفى عام 1955 كان «المهدى بن بركة» من أهم أعضاء الوفد المغربى الذى تفاوض مع الفرنسيين من أجل إعادة السلطان محمد الخامس من منفاه، وبالفعل عاد السلطان وانتهى الانتداب الفرنسى على المغرب وأصبحت المغرب دولة مستقلة وأصبح السلطان محمد الخامس ملكا عليها. إلا أنه بالنسبة لشخصية وزعامة بقدر وحجم وعمق المهدى بن بركة، فالاستقلال السياسى فى حد ذاته لم يكن نهاية المطاف، فقد كانت الرؤية واضحة لديه، وهى التكامل بين الاستقلال الوطنى والدفاع عنه وتوسيعه من المجال السياسى إلى المجالات الاقتصادية والثقافية، وتبنى الديمقراطية منهاجا لضمان بقاء المغرب ملكية دستورية ولضمان حكم الشعب بالشعب ولتحقيق المشاركة السياسية لكل أطياف المشهد السياسى المغربى، وتبنى الاشتراكية لتحقيق العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص لمجتمع عانى كثيرًا، مثله مثل بقية المجتمعات العربية، من التفاوت الطبقى الصارخ، فى ظل الاحتلال الأجنبى وما أنتجه ذلك من تشوهات بنيوية وهيكلية، وكان البعد الرابع للمشروع الفكرى والسياسى للمهدى بن بركة هو البعد القومى العربى من منظور ثورى وتقدمى، وأخيرا كان النظر إلى المغرب كجزء من كتلة صاعدة فى النظام الدولى آنذاك وهى كتلة بلدان العالم الثالث، أو ما يسمى الآن ب «الجنوب العالمى». ونتيجة لتصاعد الخلافات داخل حزب الاستقلال من جهة، وتضاعف المناورات السياسية بين الحزب وبين الملك محمد الخامس من جهة أخرى، قرر المهدى بن بركة فى يناير من عام 1959 تأسيس حزب «الاتحاد الوطنى للقوات الشعبية»، واعتبر أنه لا ينشق عن أو يسعى لتقسيم حزب الاستقلال بقدر ما يسعى إلى تشكيل حزب متجانس لديه رؤية واضحة، وهو الحزب الذى تحول اسمه بعد سنوات قليلة من اختفاء مؤسسه المهدى بن بركة إلى «الاتحاد الاشتراكى للقوات الشعبية»، بعد اندماجه مع بعض فصائل حزب «الحركة الشعبية» وحزب «الاستقلال الديمقراطى». وبعد عام من وفاة الملك محمد الخامس، أعلن المهدى بن بركة فى عام 1962 برنامجه السياسى تحضيرًا للمؤتمر الثانى لحزبه تحت شعار «الخيار الثورى فى المغرب»، وكان من الواضح أنه سوف يدخل فى مواجهة مع الملك الجديد آنذاك الحسن الثانى الذى كان مختلفا فى التوجهات السياسية عن والده الراحل محمد الخامس. ففى هذا البرنامج تبنى بن بركة خيارًا ثوريًا يساريا واضحًا، ولكنه كان ديمقراطيًا أيضًا فهو أعلن تبنى الاشتراكية ودعا إلى إصدار قانون للإصلاح الزراعى فى المغرب، وفى ذات الوقت دعا إلى أن تشمل الديمقراطية كل مناحى الحياة العامة فى المغرب، كما دعا إلى أن تقف المغرب فى خندق واحد مع البلدان العربية والإفريقية المناهضة للاستعمار والاستعمار الجديد. وفى العام 1962 تم اتهام المهدى بن بركة بالتدبير لمؤامرة ضد الملك الحسن الثانى، وتسارعت وتيرة التطورات فى اتجاه تدهور العلاقات بينه وبين الملك، وفى العام 1963 أصدر الملك قرارًا بنفيه خارج البلاد بعد أن وجه بن بركة نداءً للقوات المسلحة المغربية برفض تنفيذ أوامر قياداتهم بإطلاق النار على القوات الجزائرية فى الحرب التى دارت بين البلدين فى ذلك العام، وذلك بعد عام واحد فقط من استقلال الجزائر، وهو ما اعتبره الملك بمثابة خيانة عظمى، ولاحقًا حكم على بن بركة غيابيًا بالإعدام فى المغرب. وقد انتقل المهدى بن بركة فى منفاه بين محطات عدة، بدأت بالجزائر العاصمة حيث التقى هناك بالمناضل الأسطورى أرنستو تشى جيفارا، مرورًا بالقاهرة فى أوج توهج التوجهات الاشتراكية آنذاك للقيادة الناصرية، ثم العاصمة الإيطالية روما، ومن ثم مدينة جنيف السويسرية، ومن بعدها العاصمة الكوبية هافانا التى كانت قد انتصرت الثورة فيها فى يناير 1959، وكرس مساعيه فى ذلك الوقت لتحقيق هدف توحيد القوى والحركات الثورية فى العالم الثالث، وذلك من خلال تنظيم مؤتمر كان من المقرر أن تستضيفه العاصمة الكوبية هافانا فى يناير من عام 1966 تحت عنوان «مؤتمر القارات الثلاثة»، فى إشارة إلى إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وانصبت رؤية بن بركة فى التحضير لهذا المؤتمر أنه سيكون مناسبة لجمع حركات التحرر الوطنى من جهة والحركات التى تتبنى النهج الماركسى والاشتراكى من جهة أخرى فى محفل أممى واحد. كذلك حدد بن بركة أهدافًا محددة يجب أن يخرج بها هذا المؤتمر، منها تعبئة الدعم لحركات التحرر الوطنى التى كانت لا تزال تناضل من أجل استقلال بلدانها، وتصفية القواعد العسكرية الأجنبية المتواجدة فى ذلك الوقت فى بعض بلدان العالم الثالث، وتعبئة الدعم للثورة الكوبية فى مواجه الحظر والعقوبات الأمريكية، وإسقاط نظام الفصل العنصرى (الأبارتيد) فى جنوب إفريقيا. ولا شك أن دور المهدى بن بركة المحورى فى التحضير لمؤتمر القارات الثلاثة قد جلب عليه عداء دولًا غربية كبرى فى ذلك الوقت، كان فى مقدمتها الولاياتالمتحدةالأمريكيةوفرنسا، وذلك بالطبع بالإضافة إلى عدائه المستحكم مع الحكم المغربى آنذاك متمثلًا فى الملك الحسن الثانى ووزير داخليته، رجل المغرب القوى فى ذلك الوقت، الجنرال محمد أوفقير، ويضاف إليهم إسرائيل التى كان بن بركة يحشد العداء لها فى بلدان العالم الثالث دعمًا لنضال الشعب الفلسطينى من جهة وكشفًا لهويتها التى اعتبرها رأس جسر للاستعمار العالمى والاستعمار الجديد من جهة أخرى. وقد شعرت حكومة الرئيس الفرنسى آنذاك «شارل ديجول» بإحراج كبير بعد تسرب وانتشار خبر اختطافه فى باريس، وشرعت فى فتح تحقيق حاولت خلاله الحصول على تعاون السلطات المغربية فى ذلك الوقت، وخلص التحقيق إلى تورط عدد من رجال الأمن والاستخبارات الفرنسية فى الحادث، بالإضافة إلى الشكوك فى وجود أدوار لكل من وزير الداخلية المغربى آنذاك الجنرال أوفقير ورئيس المخابرات المغربية فى ذلك الوقت أحمد الدليمى فى عملية الاختطاف، وإجراء تحقيقات سرية وتحت التعذيب مع بن بركة فى فيلا فى أحد ضواحى باريس فى ذلك الوقت، قالت روايات إسرائيلية لاحقًا أنه كان من المنازل الآمنة التابعة للاستخبارات الإسرائيلية (الموساد)، ولم يعرف إن كان بن بركة استشهد بسبب التعذيب، حسب بعض الروايات، أو أنه تم قتله فى فرنسا وإذابة جثته فى حامض قدمته الموساد آنذاك، حسب روايات أخرى، أم أنه نُقل إلى المغرب وقُتل هناك، حسب روايات ثالثة، كما ذهبت بعض الروايات إلى حد القول إنه تم فصل رأسه عن جسده ، ولكن الأمر المؤكد هو أنه لم يعرف مكان دفن بن بركة حتى الآن أو ماذا حدث بشأن جثمانه، حيث اختلفت، بل وتضاربت، روايات كثيرة. وقد صدر حكم غيابى فى فرنسا ضد الجنرال أوفقير فى ذلك الوقت بالسجن المؤبد بعد إدانته فى الحادث، وأدى ذلك إلى توتر فى العلاقات الدبلوماسية بين فرنسا والمغرب وصل إلى حد قطع العلاقات الدبلوماسية بينهما فى مطلع عام 1966، وإن كان الملك الحسن الثانى سعى لاحقًا وبعد قيامه بإعدام الجنرال أوفقير بعد محاولته الانقلاب عليه فى عام 1972 إلى نفى أى صلة له باغتيال بن بركة وإلصاق الأمر برمته بأوفقير، إلا أن تسجيلات صوتية ظهرت بعد وفاة الملك الحسن الثانى لأوفقير سعت لإثبات العكس. ولكن المؤكد أنه حدث تنسيق قوى بين المخابرات المغربية والموساد الإسرائيلية التى بات يعتقد، خاصة بعد صدور عدة كتب عن هذا الموضوع فى إسرائيل فى السنوات الأخيرة، أنها قامت باستدراج بن بركة من جنيف إلى باريس تحت ادعاء وجود مخرج ينوى إخراج فيلم عن حركات التحرر الوطنى فى العالم الثالث ويرغب فى لقاء بن بركة لهذا الغرض وهناك سلمته لعملاء المخابرات المغربية بتواطؤ بعض المسئولين فى أجهزة الأمن والاستخبارات الفرنسية، مما اضطر الرئيس ديجول إلى إجراء عملية تطهير واسعة فى أجهزة الأمن والاستخبارات الفرنسية بعد الحادث. وقد تردد أن مساعدة الموساد فى هذا الأمر جاءت فى إطار صفقة سمحت بمقتضاها السلطات المغربية ل «مائير عاميت» مدير الموساد فى ذلك الوقت وطواقم تابعة له بدس أجهزة تصنت وتسجيل فى قاعات القمة العربية التى استضافتها المغرب فى سبتمبر 1965 وتسليم التسجيلات للجانب الإسرائيلى مقابل مساعدة الموساد للحكومة المغربية فى اصطياد وتصفية بن بركة. كذلك ظهرت لاحقًا روايات قوية بشأن اشتراك المخابرات المركزية الأمريكية فى عملية اختطاف وقتل بن بركة. ويبقى المهدى بن بركة رمزًا للزعماء والمناضلين الذين أخلصوا لأوطانهم وشعوبهم وأمتهم، بل ولحركات شعوب بلدان الجنوب بأسرها، فى نضال وتضحية فى سبيل ما يؤمنون به، وذلك بالرغم من محاولات جرت من خصومه على مدار السنين لتشويه صورته والإساءة إليه أمام الشعب المغربى والشعوب العربية كافة.