لقد حِرت عندما علمت مؤخرا أن عدد الهواتف المحمولة فى الهند يفوق عدد دورات المياه. لقد أصبح نحو نصف سكان الهند، أى نحو 563.7 مليون نسمة، شديدى الارتباط بوسائل الاتصال الحديثة، فى حين أن 366 مليونا فقط تتوافر لديهم سبل الصرف الصحى الحديثة، وفقا لدراسة أجرتها الأممالمتحدة. ويمكن أن يرى المرء فى ذلك نوعا من التنمية المنحرفة التى تعطى للقطاع الخاص أفضلية على الصالح العام. كما يمكن أن يعتبر ذلك نموذجا يشير إلى تفوق الأسواق على الحكومات: حيث تحقق شركات المحمول البارعة فى الهند أرباحا فى الوقت الذى تعجز فيه الهيئات الحكومية الرديئة هناك عن وقف انتشار الأمراض التى تنقلها المياه بفعل عمليات التنقية التى تتم فى العراء. أو ربما يبدو الأمر بمثابة خيارات اعتمدها الهنود بشأن الأولويات. لكن من المؤكد أن نصف المليار هندى الذين يمتلكون المحمول وسوف يرتفع عدد هؤلاء إلى مليار خلال العقد المقبل قد بدأوا يعيشون فى عوالم متوازية. ذلك أن لديهم مجتمعهم الذهنى، الذى قد يتضمن التواصل مع أعضاء الأسرة الذين يعيشون بعيدا فى لندن أو لويزفيل. كما أن لديهم مجتمعهم الفيزيقى، حيث القرى الفقيرة الرثة والإهمال البيروقراطى. الكلمات تطير عبر المحمول، والصرف الصحى ينهار. ووفقا لبعض المقاييس، تعتبر هذه الازدواجية سمة من سمات المجتمعات الحديثة. وتؤدى هذه السمة إلى فصام دائم إزاء الدولة والحكومة.فمن ناحية، يشعر من يتمتعون باستقلال متزايد ويرتبطون بالعالم عن طريق التكنولوجيا، ويستطيعون اختيار مجتمعاتهم المسورة، الحقيقية والمتخيلة على حد سواء، ويتجاوزون القيود والضرائب بتداخلاتها المحمومة بازدراء الحكومة والدولة. وكما كتب مارك ليلا فى ذا نيويورك ريفيو أوف بوكس يقول عن حركة حفلة الشاى التى تشبه طفلا صغيرا فى نوبة غضب: «إن لدى هؤلاء شيئا واحدا فقط يمكن إيجاد وجه للشبه بينه وبين قول جريتا جاربو: أريد أن أُترك وحدى». من ناحية أخرى، فى ظل إدراك أن كوكب الأرض الصغير المعولم أقترب كثيرا فى الآونة الأخيرة من الانهيار المالى التام، وأنه لا يزال إلى اليوم يتأرجح بالقرب من الحافة، ومع ملاحظة العقبات التى تنشأ حينما يُطلق العنان للفوضى الخالصة كى تفعل فعلها فى العالم، فمن المحتمل أنه مع مجرد التلميح بأن المؤسسات الجماعية تمثل ضرورة لأى مجتمع، يصرخ الناس فى لحظات الأزمة مطالبين الدولة المذمومة بالتدخل كى تنقذهم، أو على الأقل كى تنقذ منازلهم التى اشتروها بوسائل التمويل نفسها التى ينتقدونها الآن بقسوة. وعند مستوى غامض، لا تزال كلمات جون ستيوارت ميل التالية تُحدث صدى: «تنفر الفكرة أساسا من المجتمع الذى يتماسك فقط عبر المشاعر والعلاقات التى تنطلق من مصالح مالية». لكن هذا هو نمط الأفكار وأنماط المجتمعات التى أصبح لها الهيمنة خلال العقدين الماضيين. لقد حدثت القفزات الكبيرة إلى الأمام التى حققتها كل من الصين والهند بعد أن أصبحت الإنجازات الاجتماعية الضخمة التى حققتها الحكومات الاشتراكية الديمقراطية والمسيحية الديمقراطية فى أعقاب الحرب العالمية الثانية تؤخذ باعتبارها أمرا مسلما به. وبعد عام 1989، أصبح الناس أكثر ميلا لمهاجمة دولة الرفاهية المزعجة، بدلا من الإقرار بأن الاستحقاقات الاجتماعية والنظرية الاقتصادية الكينيزية الجديدة قد حمت القارة الأوروبية من التمزق مجددا. جاء نمو الصين والهند فى اتساق مع جيل الإثراء السريع المعولم، وسادة المال فى الكون، وليس فى اتساق مع المسئولية الاجتماعية. والآن، يرى البلدان العواقب أمامهما. فى أوروبا ما بعد الحرب الباردة بينما كانت الثاتشرية لا تزال تُحدث صداها، وكان الإجماع على أن الأسواق تعلم أكثر لا يزال منتشرا، وكانت قد ضاعت الأهداف العامة التى تصاحب وجود عدو مشترك تآكل التماسك السياسى والاجتماعى. وبمعانٍ كثيرة، تعبر أزمة اليورو الراهنة عن أزمة جيل غير قادر على الحركة. وكان مفترضا أن تكون العملة المشتركة تتويجا لأوروبا الموحدة، التى تُعد بدورها الضمان النهائى فى مواجهة ويلات القرن الحادى والعشرين. لكنها بدلا من ذلك، وقعت مثلها مثل النموذج المثالى الأوروبى ضحية لمتعة الأموال السهلة، والنزعة الاستهلاكية، والتفتت، والنزعة الشعبوية المعادية للمهاجرين. ويبقى أن نرى ما إذا كانت بوسع أزمة اليورو إحياء أية قناعات حول ضرورة الحكم الأوروبى المشترك من أجل دعم هذه العملة. وفى الولاياتالمتحدة، يعبر النمو السريع لحركة حفلة الشاى عما يطلق عليه ليلا «التمرد الشعبوى» ضد الحكومة، وضد جميع أشكال التنظيم فى واقع الأمر. إنها سياسية الجماهير الليبرتاريانية.» لكن هذه الجماهير يحركها إلى حد كبير الغضب من الانفجار المالى الذى تكمن جذوره فى عالم موحل من التزامات الدين المضمون ومبادلات عدم الوفاء بالسداد، المتحرر من أية سيطرة حكومية وكانت الخدمة التى قدمتها فى نهاية المطاف هى التذكير بأن بعض المشكلات تعتبر كبيرة إلى الحد الذى تتطلب معه قدرا من المسئولية الجماعية. وفيما يلى الفصام الذى ألمحت إليه فى السابق: أريد حريتى كاملة، متحللة من المسئولية، إلى أن تأتى اللحظة التى أصبح فيها فى حاجة إلى أخ كبير كى ينقذنى. لقد ولجنا إلى ما سماه تونى يوت «عصر عدم الأمان». وبكل المقاييس، على الأقل فى الغرب، نعيش فى أزمة اقتصاد السوق، أو على الأقل أزمة الفردية التى يحركها كلية السوق (مع ما يصاحب ذلك من تصاعد فى الدين) التى هيمنت على العقدين التاليين على نهاية الحرب الباردة. لقد وصل عصر الانفلات إلى حدوده القصوى، وجاء وقت الحساب. لكننا لا نزال فى حاجة إلى تحديد نوع جديد من التوازن بين الدولة والسوق؛ توازن يوفر دورات المياه، مثلما يوفر الهواتف المحمولة. ولا يجب أن تتعارض الكرامة مع الفرصة. لا نحتاج إلى النظر إلى الوراء أبعد مما يجب كى نرى الآثار العنيفة التى تنجم عن الانهيار المالى والتفكك الاجتماعى. إن الانسحاب إلى قول جاربو لا يقدم حلا، لأن الشبكات الخاصة وحدها لا تستطيع إنقاذ المصلحة العامة.