هل كان هناك عمل عربى مشترك طوال العقود الماضية ثم اختفى، وبالتالى هناك حنين شامل إليه حتى يعود؟ أسأل هذا السؤال الذى قد يبدوغريبا وصادما لدى البعض - لأن هناك العديد من الأفكار والتصورات والأمنيات التى تتناقض تماما مع الواقع الفعلى. السؤال مهم أيضا من ناحية توقيته، فهو يأتى بالتزامن مع القمة العربية العادية رقم 34 التى انعقدت فى العاصمة العراقية بغداد أمس، وغاب عنها عدد كبير من القادة العرب. والعامل الثانى هو جولة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب فى منطقة الخليج فى أولى جولاته الخارجية. والعامل الثالث هو استمرار عدوان إسرائيل الوحشى على المنطقة خصوصا على قطاع غزة منذ 7 أكتوبر 2023، وعلى سوريا واحتلالها للمزيد من الأرض، واليمن وعدم انسحابها من جنوبلبنان. هذه هى العوامل الثلاثة الماثلة الآن، إضافة إلى عوامل أخرى كثيرة سابقة تجعل الكثيرين يسألون: أين العمل العربى المشترك؟ من يطرح هذا السؤال يتصور بداهة أنه كان هناك عمل عربى مشتركا فى السابق، وأنه تمكن من تحقيق إنجازات ملموسة على أكثر من صعيد. فى رأيى المتشائم أنه لم يكن هناك عمل عربى مشترك مستدام، بل تحقق ذلك فى لحظات استثنائية قليلة، وبالتالى فإن الأصل هو العمل القطرى المنفصل، والتنافس العربى، وليس التكامل. إذن المشكلة هى فى التصورات والأحلام التى تصطدم بالواقع، فيحدث الإحباط وأحيانا اليأس. نتذكر أن جامعة الدول العربية تأسست عام 1945 وهى بذلت جهودا كبيرة لتحقق الوحدة العربية، لكن الواقع يقول إنها اصطدمت بالعديد من التحديات الوجودية، فهى جامعة للدول والحكومات وليست للشعوب، وهى لا تملك جيوشا أو صلاحيات تشريعية لتنفيذ قراراتها. والواقع يقول لنا إنه فى عام 1950 تم توقيع اتفاقية الدفاع العربى المشترك والتعاون الاقتصادى، ولم يتم تفعيلها فى العديد من المرات التى تهددت فيها دول عربية وخصوصا فلسطين. فى عام 1964 تم إنشاء مجلس الوحدة الاقتصادية العربية بهدف إنشاء سوق عربية مشتركة خلال مدة محددة، وبالفعل تم إنشاء الشركة العربية للاستثمار والمصرف العربى للتنمية الاقتصادية فى إفريقيا، لكن ذلك صادف عقبات كثيرة منها غياب الإرادة السياسية واختلاف النظم الاقتصادية. وفى عام 1970 تم إعلان السوق العربية المشتركة، لكنها ظلت حتى هذه اللحظة حبرا على ورق. كان طموحها إلغاء القيود الجمركية وتوحيد السياسات الاقتصادية، لكن استمرار الصراعات العربية حال دون ذلك. وفى عام 1981 تم توقيع اتفاقية تيسير وتنمية التبادل التجارى، وهى أيضا تواجه عقبات كثيرة من أجل تطبيقها على أرض الواقع. فى عام 1997 تم الإعلان عن منطقة التجارة الحرة العربية ووقع عليها 17 دولة، وتنص على إزالة الرسوم الجمركية تدريجيا وتسهيل حركة السلع بين الدول العربية، لكن ضعف المعايير والمواصفات والاستثناءات الكثيرة وضعف الروابط اللوجستية حالت دون تطبيقها. إضافة لذلك كانت هناك أفكار ومقترحات منها الاتحاد الجمركى العربى 2009 خلال قمة الكويت، وصناديق التمويل والمؤسسات الاقتصادية المشتركة. ونظريا هناك مجالس ومعاهدات واتفاقيات عربية كثيرة لكنها إما مشلولة وإما بلا تأثير كبير. والدليل العملى على ذلك أن إحصائيات عام 2023 تكشف عن أن التجارة العربية تبلغ 2٫61 تريليون دولار، ولا يزيد التبادل التجارى العربى البينى إلا على 8٫5٪ بقيمة 223٫3 مليار دولار. ومن المهم الإشارة إلى أن 81٪ من هذه التجارة تركزت فى 5 دول أربع منها خليجية هى السعودية والإمارات والكويت وقطر إضافة لمصر. فى حين أن التجارة البينية بين دول الاتحاد الأوروبى تمثل 60٪. وبنظرة موضوعية على العمل العربى المشترك، فسوف نكتشف بسهولة وجود لحظات قليلة من التوحد العربى مثل حرب أكتوبر 1973، أو التضامن النسبى مع دول المواجهة بعد هزيمة يونية 1967. لكن القاعدة العامة كانت هى الخلافات والتنافس بديلا للتكامل، ومنذ عام 2011 فإن نصف الدول العربية تقريبا تعانى من انقسامات وصراعات وحروب طائفية وعرقية ومناطقية وأهلية، وبالتالى فهى تحتاج إلى التوحد فيما بينها كدولة واحدة أولا، قبل الحديث عن الوحدة العربية. نعم هناك مشتركات كثيرة بين الدول العربية مثل اللغة والدين والعادات والتقاليد والشعور المشترك تقريبا، لكن ذلك وحده لا يكفى، وبالتالى علينا أن نشخص الحال أولا حتى نعالجه بدقة، وبعدها نتحدث عما نتمناه، بدلا من الغرق فى أحلام وتهويمات سرمدية لا تطابق الواقع المأساوى.