حينما كنت يافعا وقبل أن ألتحق بكلية الاقتصاد بسنوات، استقرت فى مخيلتى صورة نمطية لوزير المالية، رسمتها ريشة عبقرية للفنان مصطفى حسين، فى سياق «كاريكاتير» ساخر صاغه قلم المبدع أحمد رجب عليهما رحمة الله. كان وزير المالية الدكتور الرزاز يصوّر فى هيئة مصّاص الدماء، وتجرى على لسانه حوارات تعكس حرصه على فرض ضرائب المبيعات، وصور من الجباية التى لم يسلم منها حتى الأموات، فيما عرف برسم الأيلولة. عبر التاريخ، كان وزراء المالية فى العديد من الدول يواجهون غضبًا شعبيًا بسبب سياساتهم الاقتصادية، خاصة عندما تتعلق بفرض الضرائب أو الإقدام على سياسات التقشف التى يعانيها الناس. بعض هؤلاء الوزراء أصبحوا شخصيات مثيرة للجدل بسبب تأثير قراراتهم على حياة المواطنين والاقتصاد الوطنى. فى مصر، كان نوبار باشا أحد الشخصيات التى أثارت الجدل خلال فترة توليه المناصب الحكومية. رغم أنه كان أول رئيس لنظّار مصر، وشغل منصب وزير المالية ضمن ما تقلّده من مناصب، إلا أن سياساته المالية والتنظيمية لم تكن دائمًا محل ترحيب شعبى. كان يُنظر إليه على أنه مسئول عن تنفيذ سياسات اقتصادية أثقلت كاهل المصريين، خاصة فى ظل الأزمة المالية التى واجهتها البلاد فى عهد الخديوى إسماعيل. يُقال إنه لعب دورًا فى تفاقم الديون المصرية، وأنه تقاضى عمولات عن القروض التى أدت إلى تدخل القوى الأوروبية فى الشئون المالية لمصر، وتسببت فى عزله. ورغم ذلك، كان له دور فى تحديث الإدارة المصرية، لكنه لم يكن محبوبًا لدى عامة الشعب بسبب ارتباطه بالإصلاحات التى اعتبرها البعض مجحفة. أما إسماعيل باشا المفتش، فقد كان وزير المالية فى عهد الخديوى إسماعيل، وكان شخصية مثيرة للجدل بسبب سلطاته الواسعة وتأثيره على الاقتصاد المصرى. تولّى مسئوليات كبيرة فى إدارة الأقاليم المالية، وكان له دور فى ضبط الحسابات وتنظيم الضرائب، لكنه واجه اتهامات بالفساد المالى وسوء الإدارة. يُقال إنه أيضاً كان مسئولًا عن سياسات مالية أدت إلى تفاقم أزمة الديون المصرية، مما جعله فى مواجهة مباشرة مع القوى الأوروبية التى بدأت تتدخل فى شئون البلاد. وقد انتهت حياته بطريقة غامضة، حيث اختفى فى ظروف غير واضحة عام 1876، ويُعتقد أنه قُتل بأمر من الخديوى إسماعيل، بسبب تورطه فى قضايا مالية أثارت استياء السلطات. • • • فى فرنسا، كان جان بابتيست كولبير وزير مالية الملك لويس الرابع عشر، وكان مسئولًا عن سياسات اقتصادية صارمة تهدف إلى تعزيز خزانة الدولة. ورغم نجاحه فى تطوير الاقتصاد الفرنسى، إلا إن الضرائب المرتفعة التى فرضها على الطبقات الفقيرة أوغرت ضده صدور عامة الناس، الذين رأوا فى سياساته استغلالًا للفقراء لصالح النخبة الحاكمة. وحديثاً فى بريطانيا، كان جورج أوزبورن وزير المالية خلال فترة التقشف التى تبعت الأزمة المالية العالمية 2008. فرض تخفيضات كبيرة فى الإنفاق العام، مما أثّر سلبًا على الخدمات الاجتماعية، وخلق حالة من الاستياء بين المواطنين. سياساته كانت تهدف إلى تحقيق استقرار مالى، لكنها جلبت له الكثير من الانتقادات، خاصة من الفئات الأكثر تضررًا من التخفيضات. كما كان أندرياس باباندريو فى اليونان مسئولًا عن السياسات المالية خلال أزمة الديون التى هزت البلاد، حتى لجأت حكومته إلى فرض إجراءات تقشفية صارمة، مثل تخفيض الرواتب ورفع الضرائب، فى محاولة لإنقاذ الاقتصاد من الانهيار. ومع ذلك، اعتبره الكثيرون المسئول عن تفاقم الأزمة، واندلعت احتجاجات واسعة تطالب برحيله، مما جعل اسمه مرتبطًا بالأزمة الاقتصادية العنيفة التى مرت بها البلاد. ••• فى كل هذه الحالات وغيرها المئات، لعبت السياسات المالية دورًا كبيرًا فى تشكيل الصورة العامة للوزراء، سواء كان ذلك بسبب الضرائب المرتفعة، أو التقشف، أو التأثير على مستوى المعيشة. وعلى الرغم من أن وزير المالية الناجح فى مهمته لابد وأن تطارده بعض اللعنات، إذ أن أحداً من الراشدين لن يحب من يكلفه إنفاق المال، حتى ولو كان محصّل الكهرباء! إلا أن قلة ممن شغلوا تلك الحقيبة فى مصر حرصوا على إقامة التوازن بين تحقيق الصالح العام، من خلال زيادة الإيرادات وخفض الإنفاق، وبين مراعاة التدرّج والتسويق واتباع سياسات تعيد توزيع الدخول على نحو أكثر إنصافا. وزير المالية المصرى حاليا هو السيد، أحمد كجوك، الذى لم يهبط على وزارة المالية من الخارج، بل تقلّب بين المناصب فى ديوانها حتى اكتملت لديه رؤية إصلاحية متكاملة، تحققت منها عند جلوسى معه أكثر من مرة. الوزير يدرك الداء العضال فى جسم الاقتصاد المصري، والمتمثل فى ضعف الإنتاجية وما نشأ عنه من عجزين أحدهما فى الموازنة العامة والآخر فى ميزان المدفوعات، وهو ما يلجئنا دائماً إلى تمويل هذين العجزين بحلقة مفرغة من الديون المحلية والأجنبية، سرعان ما تلتهم خدمتهما موازنة الحكومة لتصبح حكومة فقيرة، لا تملك إيرادات تمكّنها من الاضطلاع بواجباتها تجاه الشعب. وإذ يملك الوزير وكل وزير أدوات يستطيع بها تسكين آلام تلك الأدواء، حتى تمر فترة تولّيه الحقيبة الوزارية بهدوء، فإن الرجل لا يريد ذلك، ويؤمن أن كسر تلك الحلقة المفرغة من العجز والتمويل بالدين لن يتحقق إلا عبر سياسة ضريبية عادلة، ترتفع معها نسبة الحصيلة الضريبية إلى الناتج المحلى الإجمالى من مستوياتها البائسة حول 12% إلى مستويات دول مقارنة، وذلك شريطة أن تكون الزيادة فى الحصيلة الضريبية من خلال توسيع قاعدة الممولين، لا بمزيد من الضغوط على المموّلين الحاليين، ومن خلال تبنى رؤية متصاعدة ومتدرجة فى توزيع الأعباء الضريبية، واقتران الضريبة بمزايا مباشرة يحصل عليها المموّل، ومزايا متعددة يلمسها المجتمع كله فى صورة تحسّن فى الخدمات التى تقدّمها الدولة. • • • توسيع قاعدة الممولين لن تأتى إلا عبر سياسات مطلوبة فى ذاتها، وفى مقدمتها دمج أنشطة الاقتصاد غير الرسمى (الذى يمثّل ما يقرب من 40% إلى 60% من الاقتصاد فى بعض التقديرات)، وتسهيل الإفصاح والتحصيل، والحد من التعامل البشرى فى العمليتين، بل وتطوير وتحسين ظروف العمل والتأهيل لموظفى مصلحة الضرائب على اختلاف مستوياتهم الوظيفية، بما يجعل المأمور أكثر تفهّما، والمواطن أكثر إقبالاً على سداد التزاماته الضريبية، وأشد حرصا على الاستفادة من قنوات التيسير التى ستفتحها الوزارة تباعاً، بغية قطف ثمار ومزايا التبكير فى الالتزام. الحصيلة الضريبية زادت بالفعل بنسب ملفتة (38% خلال الفترة يوليو مارس 2024/ 2025 وتصل إلى 49% حال عودة قناة السويس وقطاع البترول لمعدلاتهم الطبيعية) تعكس فى رأى الوزير تغيرا إيجابيا فى استيعاب المواطنين لدور وطبيعة عمل المصلحة، قبل أن تعكس سلسلة الإصلاحات وحملات التوعية التى لم يحن قطافها بعد. والعديد من الإصلاحات سوف تأتى تباعاً فى ملف الإيرادات الحكومية (والتى فى مقدمتها الضرائب بأنواعها والإصلاحات الجمركية وتحسين غلة استثمارات الدولة من القطاع العام) وكذا ملف الإنفاق الذى لابد وأن يعبّر عن ظروف الدولة وإمكاناتها المحدودة بمواردها وبقدرتها على سداد التزاماتها دون إفقار للشعب، لا بما يمكنها أن تقترضه من الخارج. وخلال الفترة من يوليو إلى مارس 2024/ 2025 كان نمو المصروفات بمعدل 24,4% فقط نزولا من 50,8% فى ذات الفترة من السنة السابقة، أما الإيرادات فقد شهدت نمواً بنسبة 32,1% صعوداً من 18,5% فى ذات الفترة من 2022 /2023، وبعد استبعاد حصيلة إيرادات رأس الحكمة فى الخزانة والتى تمثّل وحدها 1,3% من الناتج الإجمالى. وإذا كان نمو الإيرادات فى الفترة المشار إليها قد شهد انخفاضا يسيرا عن العام 2023/ 2024 فإن هناك الكثير من المبررات والتداعيات التى تبرر هذا، منها تآكل أثر الأساس الذى سيطر على مختلف معدلات النمو بالمقارنة بسنتى ما بعد إغلاقات الجائحة، وعوامل أخرى لا يتسع المقام لذكرها. وهناك العديد من النقاط حول مشروع الموازنة العامة الجديدة، أتطلع إلى تناولها فى مقالات قادمة بإذن الله.