يظل الغناء هو أحد المتناقضات التى تثير الجدل من وقت لآخر بين فريقين.. المتشدد يراه حراما، والمؤيد يراه شيئا مفيدا إذا أحسن استغلاله معتمدا على مقولة إن أى شىء حلال إلا ما ثبت تحريمه. ومادام لم يرد أى نص قرآنى بشأن الحل والحرمة فالأغلبية تتعامل وفق المنهج الثانى.. ومن هنا انطلق بعض الدعاة للدفاع عن الغناء وبعضهم تحول من داعية دينى ومقرئ إلى الغناء. وآخرهم الداعية الكويتى صالح الراشد الذى يرى أن المطرب تقع عليه مسئولية كبرى، لأن الذين يستمعون إلى الموسيقى كثر، مشددا على ضرورة أن يحسن المطرب اختيار الألحان والكلمات التى تحمل رسالة. وأشار فى تعليق له على موقع «إنشاد» إلى أن «ما نستطيع أن نوصله اليوم عن طريق الأغنية لا نستطيع إيصاله عن طريق المحاضرات والكتب الدينية، فجمهور اللبنانية نانسى عجرم مثلا عشرة أضعاف من يستمعون إلى الداعية عمرو خالد. وأضاف الراشد خلال كلامه لأحد المواقع «على سبيل المثال فإن حفل يوسف إسلام الأخير حضره 40 ألف شخص، وتسابق الجمهور على شراء تذاكر لحفلاته، وهذا شىء يبشر بأن هذا النوع من الغناء يلقى استحسانا وقبولا وتزداد شعبيته بين الناس، وكذلك سامى يوسف فهو يقدم أيضا هذا الفن الراقى». ولفت إلى أهمية أن يعرض الفنانون أغانيهم على متخصصين فى الجانب الروحى والنفسى، لاستشارتهم فيما إذا كانت أغانيهم تصلح كى تذاع بين الناس أم لا. ودافع الداعية الكويتى عن اتجاهه للغناء، وجمعه بين الدعوة والموسيقى فى الوقت نفسه، وقال: «تعتبر هذه المسألة فى مجتمعاتنا من أكبر المتناقضات، فالعرف الموجود هو أنك إما أن تكون رجلا متدينا، وإما أن تتبع الفن على اعتبار أن الأمرين متناقضان، وفى رأيى فالموضوع هو العكس، فالفن هو جزء أصيل من التراث الإسلامى، والأصل أن كل شىء حلال إلا ما ثبت تحريمه». وعن طبيعة عمله قبل الاتجاه للغناء أضاف: «بداية عملت فى فترة من فترات حياتى فى لجنة التعريف بالإسلام، كما عملت إماما وخطيبا سابقا بوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية الكويتية، وقد عملت فى تلك المهام بشكل تطوعى». وتطرق الداعية الكويتى إلى طبيعة ردود الأفعال التى تلقاها عقب اتجاهه للغناء، وقال: إن هناك ثلاثة أنواع من ردود الأفعال، فهناك ردة فعل إيجابية تمثلت بالمديح والإعجاب بهذه الخطوة وإبداء الرغبة فى التعاون، من كبار الفنانين والمسئولين، وهناك فئة أخرى لم تبد تعليقا، كما أن هناك ردودا سلبية أيضا كانت من قبل بعض المشايخ والدعاة. غير أن الداعية الكويتى عاد وقال: «لا أخشى الانتقاد، فالمنتقدون يشكلون 5% فقط من الجمهور الكبير، فالغالبية لم تنتقد». وكشف عن أنه يفكر فى الغناء للحب ولكن ليس الآن، حيث إنه يريد أن يغنى للحب بمفهومه الواسع والسامى والصحيح، لافتا إلى أن رسالته فى الفن تدور فى ثلاثة محاور هى المحبة والسلام والتنوير. وعند الاتصال به عبر موقعه على الفيس بوك جاءت إجابته قصيرة جدا حيث قال: «لكل من الغناء والدعوة ميزة وأهمية». وحول مدى تأثير الغناء على الناس أكثر من المحاضرات الدينية وهو الرأى الذى لم يؤكده فقط هذا الداعية الكويتى لكن أكده أيضا فضيلة الشيخ الغزالى فى مكالمة هاتفية قبل رحيله مع الموسيقار الكبير عمار الشريعى، قال عمار: بالفعل تحدثت مع الإمام والشيخ الجليل الغزالى وسألته: مولانا هل الأموال التى جمعتها عن طريق الموسيقى حلال؟ قال فضيلته.. بالنسبة لك حلال. فقلت له.. ليه هى المزيكا مش حرام، قال فضيلته هى مثل أى شىء حلالها حلال وحرامها حرام. وضرب مثلا بكم القلوب التى خشعت عندما استمعت إلى السيدة أم كلثوم فى عملها الرائع «ولد الهدى» وأضاف أن ما حققته أم كلثوم للإسلام أكثر مما حققته كتبى. وأضاف عمار الشريعى أن الصوت الحلو سواء كان لمطرب أو لشيخ يكون له تأثير السحر. أو بالمعنى البلدى «يوجع القلب» ولكم فى صوت الشيخ رفعت، وعبدالباسط، والشعشاعى مثلا كبيرا. ويستطرد الشريعى: وفى الغناء استمعوا لصوت عبدالحليم حافظ فى الأدعية مثل «ع التوتة والساقية» أداها بإحساس يجعل الجسد ينتفض من الداخل لكن دعنى اختلف أن مطربى الماضى ليسوا كمطربى هذه الأيام. زمان كان العمل متكامل الآن أصبح موضة وإن كانت هناك تجارب يجب أن نحترمها لكنها قليلة جدا. المطرب الكبير هانى شاكر يقول: أنا مقتنع تماما بكلام الشيخ الجليل الأمام الغزالى. وسعيد بهذا الرأى، واتفاق هذا الرأى مع وجهة نظرى زادنى سعادة لأن الغناء يجب أن يكون له دور فيما يحدث، وما قيمة محاضرة دينيه إذا كان الشباب بعد الاستماع إليها سوف يذهب ليشاهد غناء خليعا على إحدى الفضائيات. والدليل هذا الكم من التحرش فى الشوارع رغم ازدياد عدد المحجبات، وانتشار الدين. لذلك أرى أن المحاضرات الدينية بمفردها غير كافية. ليس من المقبول أن تنتشر المحاضرات وهناك سم اسمه فضائيات الإثارة تعطى جرعات هدامة لقيم المجتمع.. هذا حرام، لكن الغناء الجيد الهادف سيساهم فى الارتقاء بالذوق العام. الموسيقار أمير عبدالمجيد يرى أن الغناء له تأثيره بشهادة الأئمة أنفسهم، مشيرا إلى أن أحد الأئمة قال له إن أغنية ذات كلام بليغ يمس القلب ولحنا جيدا وصوتا يمتلك أحساسا أبلغ من درس ساعة. أهم شىء أن يكون المطرب مقنعا للناس ويتمتع بسمعة جيدة حتى تصل الرسالة، لأنه ليس من المقبول أن أجد صوتا الناس مختلفة حول سلوكه الشخصى ونطلب منه أن يقدم فنا يحمل رسالة. المطرب يجب أن يكون قدوة، لذلك عندما تنظر إلى شركات الدعاية وهى تختار مطربا فهى تذهب لمن يعتبره الشباب قدوة حسنة لأن الشاب سوف يسعى لتقليده وبالتالى سوف يحدث رواج تسعى إليه هذه الشركات كذلك الأمر فى كل شىء. ويرى المطرب الكبير على الحجار أن رأى الأمام الغزالى أنهى هذا الجدل الدائر منذ سنوات طويلة «لأننى تعرضت لمأزق عندما سجلت أجزاء من القرآن بصوتى ووجدت البعض يطالبنى باعتزال الغناء لأن الجمع بين الغناء وتلاوة القرآن حرام. لكننى وجدت أن تسجيلى للقرآن قد يجعل بعض المعجبين بصوتى يستمعون إليه». وأضاف الحجار: «لك أيضا أن تتخيل لو أن مطربا نجم مثل عمرو دياب فعل هذا سوف تجد ملايين حريصين على الاستماع إليه لأنه مثل أعلى لبعض الشباب» ويشير الحجار إلى أن السيدة أم كلثوم سجلت بعض أجزاء من القرآن بصوتها ولو كانت هناك حرمة لتصدى لها المشايخ فى ذلك الوقت مؤكدا أن الغناء الجاد هو نوع من أنواع مكافحة الرذيلة المنتشرة الآن «لذلك أنا مع وجود تيار غنائى يكافح تلك الفوضى مع المحاضرات الدينية». الإعلامى الكبير وجدى الحكيم قال: الغناء الدينى إذا كان يحمل مضمونا سوف يلعب دورا كبيرا فى الارتقاء بالذوق العام، كما أن الغناء كان له دور فى تأريخ أهم المحطات الدينية، والدليل أغنية «طلع البدر علينا» التى استقبل بها أهل المدينة الرسول الكريم، ولو أن النبى عليه الصلاة والسلام وجد بها ما هو ضد الدين لمنعها. وعن أغنية يا «رايحين للنبى الغالى» لليلى مراد فهى كما يرى الحكيم تذكرنا بمجرد الاستماع إليها بفريضة الحج، ويخلص إلى أن الغناء الدينى كان له دور فى مكافحة الاحتلال فى أغنية مثل «ولد الهدى» لأم كلثوم التى منعها المدير الإذاعة الإنجليزى لأنه وجد فى الشطرة التى تقول فيها «وما نيل المطالب بالتمنى إنما تؤخذ الدنيا غلابا» ما يوحى بمقاومة الاحتلال، ولم يذعها إلا بعد أن ذهبت إليه أم كلثوم وكسرت زجاج المكتب من شدة عصبيتها وجرحت يدها وهددته بالوقوف فى الشوارع وغنائها إذا لم يذعها كاملة. ويضيف: «كنا فى الماضى نحفظ الفروض بالغناء وأذكر أن الشيخ النقشبندى رحمه الله وجدته يستغيث بى لكى أتدخل لمنع فكرة الرئيس السادات بالغناء من ألحان بليغ حمدى وقلت له سوف نذهب معا لبليغ إذا أعجبك اللحن اخلع عمامتك وضعها على البيانو وقد حدث ووجدته وقد خلع العمامة والجبة والقفطان. هذه النماذج من المشايخ لا تتكرر ولا تسمح لأحد بالمساس بالدين. والأغنية الدينية قد تكون أكثر تأثيرا من خطبة الجمعة لأنها تختصر ما بها من معان وعظات.