أضحى غزة.. عيدٌ جديد أطل على القطاع من نافذة الحرب والقصف والدمار.. غابت عنه ملامح فرحة الاستقبال وابتهاج القدوم، وخلت تفاصيله من معظم سُنن الاحتفال المعتادة، سوى محاولات بسيطة هنا وهناك؛ أملاً في انتزاع فسحة من سعادة، رغم كل مشاعر الأسى التي ترتسم على أوجه المارة في الشوارع والطرقات. يبرز حجم الاختلاف في مظاهر الاحتفال بعيد الأضحى بقطاع غزة هذا العام مقارنة بالأعوام السابقة في غياب الأضاحي، التي تعد الشعيرة الأساس التي تميزه عن بقية الأعياد؛ ويعزى ذلك إلى عدم قدرة التجار والمزارعين على استيراد الماشية والأعلاف؛ بسبب استمرار إغلاق معابر القطاع مع مصر وإسرائيل؛ وضعف قدرة السوق المحلي على الإنتاج؛ نتيجة استهداف معظم المزارع وندرة توافر المراعي وأعلاف التغذية؛ مما تسبب في أزمة حادة تجلت مظاهرها في سوق الماشية التي ترتكز بالأساس على نشاط حركة البيع والشراء في هذه الفترة تحديداً من كل عام. الحاج شاكر زعرب روى لوكالة أنباء العالم العربي (AWP) قصته مع الأضاحي قائلا "على مدى نحو ثلاثين عام، لم أنقطع مطلقاً عن تقديم الأضحية في العيد، وكان في ذلك فرصة مناسبة للتعاون بيني وأبنائي والأهل والجيران في عملية شراء الأضحية وتجهيزها وتوزيع لحمها على الفقراء والمحتاجين من الأقارب والأصدقاء والعائلات المستورة. أما هذا العام فقلبي ينفطرُ حسرةً لعدم قدرتي على الوفاء بهذه الشعيرة الأحب، فالمواشي المتوفرة في السوق شحيحة جداً وأسعارها مضاعفة بشكل جنوني يفوق خمسة أو سبعة أضعاف سعرها الطبيعي، وأحياناً عشرة، كذلك امكانياتي المالية تراجعت بشكل ملموس بعد الاستنزاف الكبير في مصروف البيت والمصاريف المستحدثة في الحرب من شراء أخشاب نار الطهي وخيام ومواصلات التنقل والنزوح المتكرر من مكان إلى آخر؛ مما جعلني غير قادر على شراء أضحية هذا العام". مظاهر العيد أما على صعيد الحركة التجارية، فيروي سوق دير البلح، آخر الأسواق المركزية المتبقية في قطاع غزة، قصة هذا العام، والتي تجسدت وعلى عكس العادة، في الافتقار إلى مظاهر استقبال موسم عيد الأضحى إلا من بث تكبيرات العيد عبر السماعات الصغيرة الموجودة على بعض البسطات الشعبية وأمام أبواب المحال التجارية، مع غياب واضح لرمزية العيد المتمثلة في مجسمات خروف الأضحية؛ علاوةً على أن حجم إقبال الناس على الشراء مع اقتراب العيد لم يختلف عن الأيام السابقة قبل دخول الموسم، بل لربما تراجعت أكثر. هذا الأمر أكده صاحب إحدى البسطات الشعبية، لAWP قائلا "هذا الموسم هو الأضعف على الإطلاق، وحجم الحركة الشرائية فترة موسم العيد لم يختلف عما كان عليه قبلها؛ بل تراجع بشكل أكبر؛ بسبب ضعف القدرة الشرائية للمواطنين في ظل انعدام مصادر الدخل وشُح السيولة وارتفاع أسعار الحاجيات الأساسية بشكل جنوني، مما استنزف أموال الشريحة الأكبر من عامة الشعب. كذلك النقص الحاد في توفر البضائع وتدني جودتها مقارنةً بالسعر ساهم أيضاً في ضعف البيع". وعن ذلك تقول الطفلة براءة العقاد لAWP "لم أشترِ ملابس العيد هذا العام، رغم اشتياقي للفرحة بلبس ثوب جديد، إلا أن والدي لا يملك الآن ما يكفي من المال لكسوتي أنا وأخوتي كما جرت العادة كل عيد؛ بسبب عدم قدرته على سحب راتبه من البنك منذ أربعة أشهر، كذلك فإن الملابس المعروضة في السوق قديمة وبالية ولا تستحق، ولذلك اتفقت مع أمي وأبي عند انتهاء الحرب والعودة إلى بيتنا في مدينة غزة أن اشتري الكثير من الملابس الجديدة؛ عوضاً عن هذا العام". خطر المجاعة المسافة العازلة بين جنوب وادي غزة وشماله؛ تجسد صوراً أشد بؤساً؛ حيث يعاني الناس في الشمال من خطر المجاعة الحقيقية، بحسب تقارير حقوقية وشهادات حية من السكان، ويبرز حجم الخلل في التضخم الجنوني في أسعار السلع الأساسية والفواكه والخضروات، إن توافرت من الأساس، والتي تجاوزت 100 ضعف سعرها الطبيعي في أغلب أيام الحرب؛ بالتزامن مع ندرة البضائع التجارية والملابس وتضاعف أسعارها أيضاً؛ مما تسبب في الكثير من الاختلال في ميزان الاقتصاد. يروي الشاب حازم أبو العون ل AWP أحد ملامح هذا الوضع ويقول "كنت استغل مواسم الأعياد في فتح بسطة شعبية استرزق منها رسوم دراستي الجامعية؛ ونتيجة البطالة وعدم حصولي على فرصة للعمل في تخصص المحاسبة بعد التخرج، اعتمدت على مواسم البيع كمصدر رزق أعول به نفسي، وأساهم في تلبية بعض احتياجات أسرتي، ومثلي حال الكثير من الشباب وأرباب الأسر المستورة الذين كانوا يرون في مواسم الأعياد وغيرها فرصة للعمل وكسب المال في ظل تفشي البطالة والركود الاقتصادي في قطاع غزة معظم أيام السنة، إلا أن الوضع هذا العام مغاير تماماً". ويضيف "كانت زينة الشوارع وجديد البضائع أبرز ملامح الموسم، وكانت جميع المحال والبسطات الكبيرة والصغيرة تتنافس فيما بينها على من يكون فيها صاحب أجمل زينة وأجود بضاعة وأنسب سعر يجذب الزبائن، وفي ذلك تتشكل ملامح العيد وبهجته ويعلو صوته كي يعانق تكبيرات العيد، أما الآن فلا بضاعة ولا زينة ولا أعياد، فكيف يبحث جائعٌ يشتهي كسرة خبز، ولا يملك في جيبه ثمن بيضة أو حبة طماطم، عن رفاهية ملبوس أو حلوى وزينة؟". لا شيء سوى المقابر تقول طاعة حرز ل AWP "كان لهذه الأيام كل عام ضجيجٌ وصخب، ففيها تجتمع في بيتنا الكبير الأخوات والجارات وزوجات أخواني لنقش كعك العيد، وينقلب البيت إلى مخبزٍ كبير تخوض فيه كلٌ منا ماراثون الذهاب بصواني الكعك نحو ركن الخبيز، والعودة بما نضج منها لتبريده وتوزيعه في علب نتقاسمها قبل أن تغادر كل منهن إلى بيتها تحمل معها حصتها، بينما ينشغل الحوش الخارجي في طبخ أكلة السماقية الغزاوية على النار، أما هذه السنة، ومع شُح توافر لوازم نقش الكعك وحاجياته، علاوة على الضغط والإرهاق النفسي والحزن على من فقدنا من الأهل والأحباب، فلا عيد يطرق بابنا". ويختتم الطفل يوسف أبو شنب أحاديث العيد باستذكار عادة زيارة الأقارب رفقة والده، وتفاصيل توزيع لحم الأضحية، فيقول "كان والدي يصحبني في كل عام لشراء خروف الأضحية، وبعد الانتهاء من تجهيز أكياس اللحم ننطلق لتوزيعها على الأقارب والجيران، أقدم لهم كيس لحم فيردونها علي قطعاً من الشوكولاتة التي أحبها، كنت أعود إلى البيت أحمل كنزاً من الشوكولاتة من شتى الأنواع، ولطالما حاولت أمي منعي من أكل الكثير من الشوكولاتة؛ حتى لا ينخر السوس بأسناني. أما هذا العام وبعد استشهاد والدي بداية الحرب، ونزوح معظم الأقارب إلى مناطق الجنوب، فلا شيء لزيارته سوى المقابر". يذكر أن قطاع غزة قد استهلك في موسم عيد الأضحى الماضي نحو 17 ألف رأس من العجول، و24 ألف رأس من الأغنام، بحسب بيان وزارة الزراعة آنذاك، بينما يُقدر اقتصاديون اقتصار عدد الأضاحي هذا العام على بضع مئات الخراف فقط؛ بسبب النقص الحاد في عدد الماشية والارتفاع الخيالي في أسعارها.