فى الصيف الماضى، كانت مبادرة حوض النيل تتأهب لمرحلة جديدة من عمرها الذى يناهز العقد. وكان المفترض أن تشكل المبادرة نقطة تحول فى شراكة جغرافية، تقدم على مستوى العالم كنموذج للهيئات الإقليمية الأخرى المنوط بها تنظيم الموارد الطبيعية. لكن التفاؤل الذى كان قائما اختفى اليوم، بعد أن حلت محله سياسات القوة ودعاوى «الأمن القومى». وعشية المؤتمر الذى عقد فى الإسكندرية فى يوليو الماضى لإعادة التفاوض حول حصص الموارد المالية بطول النيل، ثارت حالة من الغضب والاستياء فى وجه مصر. وفى ذلك الحين، اعتبر المحللون والمعلقون وخبراء المياه رفضها التفاوض من أجل التوصل إلى اتفاقية جديدة مع دول الحوض الثمانى الأخرى عملا خاطئا ومتغطرسا. فإلى أى مدى تغير الحال؟ فى وقت سابق من هذا الشهر، التقى وزراء الرى فى دول حوض النيل وبعض المسئولين والجهات المانحة الدولية فى شرم الشيخ، فى محاولة أخرى للاتفاق على توزيع حصص مياه النيل. وظلت مصر على تعنتها، قائلة إنه لا يمكنها البقاء بأقل من 87% من هذه المياه وأشارت إلى العجز فى المياه الذى يتوقع أن تواجهه البلاد خلال السنوات الخمس المقبلة. وفى هذه المرة، وعلى عكس يوليو الماضى، دعمت المخابرات بقوة رفض الحكومة التوصل إلى اتفاقية جديدة. وجاء فى التعليقات الصحفية المحلية، ترديدا لتأكيدات الحكومة بأن مصادر مصر من المياه مسألة أمن قومى، إذ «لا يمكن أن نساوم على احتياجات بلادنا». وذهب أحد أعضاء البرلمان إلى حد القول إن حروب المستقبل هى حروب مياه و«نحن نرحب بهذه الحرب إذا فرضت علينا». ومن المفارقات أنه بينما يقدم مسئولو الحكومة والمعلقون سيناريو مفجعا لتبرير هيمنة مصر على مياه النيل، يعانى ملايين المصريين بالفعل من نقص فى احتياجاتهم من المياه بصورة يومية. وهذا يحدث اليوم، وليس بعد خمس سنوات من الآن. ويمكنك أن تسأل عادل محمد (44 عاما)، وهو حرفى يعيش فى ضواحى القاهرة. وقد قال لى إن أسرته كانت تقضى الأسابيع، فى الصيف الماضى، بدون ماء. وقال «إننى قلق مما يمكن أن يحدث هذا الصيف». والسبب فى انقطاع المياه، كما يرى عادل وجيرانه، هو التجهيزات الفاخرة التى تشيد لأثرياء مصر. ويقول سكان المنطقة إن المياه يعاد توجيه مسارها. وعلى مستوى من المستويات، فإن المسئولين والمعلقين المصريين على حق فى خشيتهم من نقص المياه. ومن السهل أن ترصد الخائفين، وهم أصحاب القوة الاقتصادية. وهذا ما يفسر رفضهم للتوصل إلى اتفاقية جديدة تفقد البلاد بمقتضاها كميات من الحصص المخصصة لها حاليا طبقا للاتفاقية الموقعة مع السودان فى عام 1959. وهى تعد استمرارا لاتفاقية مياه النيل لعام 1929 التى توسط الإنجليز لتوقيعها عندما كانوا قوة استعمارية. وقد خصصت الاتفاقية لمصر 48 مليار متر مكعب من المياه. وبعد اتفاقية 1959، التى لم تفعل أكثر من التأكيد على حق مصر والسودان فى القسم الأعظم من مياه النيل، زيدت هذه الحصة إلى 55.5 مليار متر مكعب، بينما خصص للسودان 14.5 مليار متر مكعب. ويمكن لمصر، كقيادة إقليمية، سياسية واقتصادية، أن تصبح قيادة بحق إذا تخلصت من رغبتها فى الحفاظ على معاهدة وضعها أسيادها المستعمرون. وكان بإمكانها أن تحول مبادرة حوض النيل إلى عمل متجاوز للحدود بحق. ويقول البنك الدولى، الممول الرئيسى للمبادرة، إنه لن يمول أى مشروع فى دول المنبع ما لم توافق عليه مصر. وبمقتضى هذا الفيتو، تستطيع مصر تعطيل التنمية على ضفاف النيل. على أن هناك خيارات أخرى، مثل مشروعات التحلية التى يمكن أن تقلل من اعتماد مصر على مياه النيل. وطبقا لما ذكرته مصادر الشراكة المائية المصرية، فإن نحو 95% من مياه الشرب والرى تأتى من النيل. وهذا وضع ينبغى أن يتغير. وباستطاعة الحكومة المصرية التوصل إلى اتفاق مع غيرها من بلاد مبادرة حوض النيل يقلل من حصصها فى مياه النيل مقابل إقامة مشروعات تحلية على البحرين الأحمر والمتوسط. وهذا يتيح لمصر القدرة على زيادة مواردها المائية أو الحصول على نفس الكمية دون حرمان بلاد المنبع من تطوير وتحسين محاصيلها الزراعية. وقد أبلغنى وزير البيئة والمياه فى بوروندى، دجراتياس ندويمانا، مؤخرا أن بلده، وغيره من بلاد المنبع، «تكافح من أجل تحسين بنيتها الأساسية وقطاعاتها الزراعية لأننا لا يمكننا تطوير الصناعة أو قنوات الرى القادمة من النيل، لعدم سماح مصر لنا بهذا ولعدم توفر الأموال اللازمة لتلك المشروعات». فالقاهرة بيدها الورقة الرابحة. إن بإمكان مصر، من خلال مشروعات تحلية المياه، تأمين كميات ثابتة من المياه بطول ساحل البحر الأحمر تنهى نقل الماء من النيل الذى تفصل بينهما مسافة بعيدة. ويتفق خالد أبوزيد، مدير الشراكة المائية المصرية، مع هذا. فهو يقول: «لا بد من الاتجاه إلى مشروعات تحلية المياه فى مصر، لأن هذا سيوفر للبلاد مصدرا آخر للمياه، ولأنه سيسد حاجة مصر من المياه بقدر كبير. صحيح أنها مشروعات مكلفة، لكنها ستجعل هذه النقاشات أكثر سهولة، على المدى الطويل، حيث ستظهر مصر فى صورة الباحث عن بدائل». ويمكن للبنك الدولى أن يسهم فى تمويل هذه المشروعات، التى ستظهر فى الوقت نفسه عزم مصر على أن تتصرف كقيادة للمنطقة. وعبر الحلول الوسط والتوصل إلى حلول بديلة، يمكن للشراكات التى تعقدها مصر بطول النيل أن تؤتى ثمارها عندما يحدث ذلك النقص القاتل للمياه. ويمكنها أن تتفادى احتمال نشوب حرب. وعبر التفاوض والتوصل إلى اتفاقية جديدة تعطى لدول المنبع حصة أكبر من مياه أكبر أنهار العالم، ستدشن مصر عهدا جديدا من الشراكة والتفاهم فى منطقة مشحونة بالغضب والإحباط. وإذا ما أخفقت فى هذا سوف تتحول المنطقة بسرعة نحو العنف والأعمال العدائية. يجب أن يسود أسلوب جديد بطول النهر، وعلى مصر أن تبذل جهودها لحل الأزمة قبل أن تخرج عن نطاق السيطرة. كما يجب عليها اقتراح التعديلات، أو تتحمل نتائج توقيع دول المنبع على الاتفاقية بدونها. فهذا قد يكون أكثر خطرا على «الأمن القومى» لمصر من التوصل إلى حل الآن. الجارديان