طالعتنا الشروق (13/4) بما يمكن أن نسميه «التجربة السويفية»، حيث عرض علاء سويف وأهداف سويف لرأى لهما فى التغيير المطلوب الآن لهذا الوطن، مع ربط رأيهما هذا (أو اقتراحهما) بنشاط الجمعية الوطنية للتغيير، المتحالفة مع محمد البرادعى (العَلَم الذى لاح فى الأفق كفرصة لابد من استغلالها)، وهو رأى لهما أقل ما يستحق من وصف هو أنه مهم. وفى ختام مقالهما يرحب الكاتبان بالتعليقات والمداخلات، مما أتمنى أن يندرج ما أخط الآن فى إطاره. من البداية يتضح من أن هذه تجربة تستحق أن ينظر لها أكثر من نظرة خاصة: فالكاتبان اثنان، وهو أمر يندر أن نصادفه فى الكتابة عامة، وفى كتابة المقالات خاصة؛ فأصحاب الرأى تغلب عليهم درجات من الاعتزاز والرغبة فى التفرد (بل المبارزة) تضيع على المصلحة العامة الكثير مما يمكن أن تكسبه لو تغيرت هذه الغلبة لصالح إيمان بالمردود المشترك (حقا) للجهد المشترك (فعلا). بل إنهما اختارا ألا يشيرا إلى طبيعة جهد أو إسهام كل منهما، وهو أمر لا يمتلك المتلقى إلا أن يلتفت إليه، ويفهم رسالته: لا بد، فى مرحلة ما، أن ينصهر الجهد المشترك فى بوتقة لا تتميز فيها الذوات دون ضرورة، وإلا ينكشف زيف ادعاء الانتماءات المشتركة والمسارات والمصائر وحتى الأهداف المشتركة؛ فتضيع الرسالة ويتبدد الجهد. وربما سمح لهما بما أشرنا إليه حالا (من كفاءة التشارك) أن الكاتبين أخ وأخت، ولكن هذا بالتأكيد لا يقلل من استفادتنا متلقين فرحين بالمبدأ، آملين فى مزيد من تجلياته. قد يبدو أمر أخوتهما مسألة شخصية، إلا أن تناولهما لدور النخبة الفكرية، وبنوتهما لعلم فكرى مصرى متميز (أ.د. مصطفى سويف، وهو أستاذى وأستاذ أجيال تسبقنى وتلحقنى)، بل إن إهداءهما هذا المقال له معا (وهذا أمر آخر جميل وغير معتاد) يجعلهما من ورثة أدوار وآمال وسمات هذه النخبة بما لا يمكن تجاهله فى تناولنا لطرح يأملان فيه من النخبة الفكرية آمالا ليست بالقليلة. إنه اتساق محمود، وصراحة غير مناورة، وشعور مشكور بالمسئولية، هذا الذى يتجلى فى تصور من هم من النخبة ميراثا ومعايشة لحجم دور النخبة ومسئوليتها. وضوح اللغة وموضوعيتها كانا أيضا من السمات المستحقة للاحتفاء الخاص بهذه التجربة. وأدعى بما لى من فخر بمعرفتى بإنتاج وأسلوب أستاذى: والدهما وأحد المهدى إليهما المقال أنهما وضوح وموضوعية موروثين بالمعانى المتعددة للوراثة. الموضوعية الواضحة للغة بدورها ليست مسألة شكلية، خاصة فى ظل ما نعانيه من عى الحوار العام، سواء فى تحيزاته النفعية، أو فى حماساته المتطرفة والعاجزة معا، أو فى اختزاله للصعوبات والتشابكات الواقعية ليطرح أحلاما براقة فى صورة حلول مقترحة. أما فى مضمون ما نشر، فثمة عدة من النقاط التى يبدو من الواجب مناقشتها فى محاولة الإسهام فى هذه البداية الموضوعية. أولا: يبدو من المهم إعطاء مزيد من الانتباه لمعنى بات يتكرر مؤخرا بشكل يثير الفرح والأمل فى التغيير لمصر، لا لرءوسها فقط: «ليس الحل فى التحرك السياسى (وحده)»، بل فى التحرك المجتمعى. وإن كان الكاتبان قد ركزا تحديدا على الوجه الفكرى لهذا التحرك المجتمعى المنشود، والذى ينبغى أن تبادر به النخبة الفكرية لهذا المجتمع المطلوب منه وله التحرك؛ فهذا أمر يحتاج لمراجعة، آمل ألا تكون متشائمة. ثانيا: انتبه الكاتبان لخدعة رسم الخطوط العريضة والشعارات العامة دون الانتباه لكل من الظروف الواقعية (توصيف مصر الآن) والتفاصيل المكونة لملامح الصورة المستقبلية المأمولة، وهى خدعة أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها استنفذت من مواردنا اللغوية والزمنية ما ينبغى أن نخجل منه ومما جره علينا من هزائم على جميع المحاور، حتى ولو «حسنت النوايا». ثالثا: انتبه الكاتبان أيضا لما نعانيه من عجز عن العمل المشترك، ونجحا فى وصفه بأقل الألفاظ عددا وأكثرها تأدبا وحرصا على تفادى التشاؤم وبعث الأمل. إلا أن الإشارة التى أبدياها لاتجاه الحل، والتى تنبه إلى وجود قيادات قادرة على إدارة مثل هذا الجهد المشترك المأمول هى فى تصورى أكثر نقاط المقال تعجلا للحل وتجاهلا لعمق المشكلة. باختصار، يعالج المقال من بين ما يعالج: دعوة النخبة لإسهام تراكمى وجماعى (غائب)، وينتبه لغياب المعالجات التفصيلية لصالح شعارات ومبادئ عامة وقد تكون فضفاضة، بالإضافة لانتباهه للفشل المتكرر فى تجارب العمل المشترك لعناصر هذه النخبة. وظنى أن ما يقف وراء هذه النقاط الثلاث ليس شتاتا من الأسباب المتنوعة، كما لا يمكن النظر لهذه المسائل (أو بعضها) بوصفها أعراضا جانبية أو حتى هوامش معطلة لمسيرة محاولة التغيير. لذلك فإن تناوله بالعرض ومحاولة التشخيص أو التحديد يقع ضمن ما يطالب به الكاتبان من «توصيف مصر الآن» مما يمكن أن يساعد على الاستعداد لمواجهة المعوقات الحقيقية. لعلى أنجح أن أوجز ما أريد التنبيه إليه فى السؤال: هل وصلنا إلى حال نحتاج معها أن نوجه نظر النخبة إلى دورها وإلى تفاصيله؟ كيف وصلنا لهذا بينما: (2) تبدو الساحة و«كأنها» مشتعلة بحراك صاخب، و(1) لن تحتاج أمة، خاصة من الأمم السباقة، إلى تذكرة النخبة بدورها البديهى؟ لا أعد هذا التساؤل الاستنكارى نقدا للمقال بقدر ما هو استقراء لما ينطوى عليه «ضمنا» من وصف لحالنا. كيف وصل الحال بنخبتنا إلى هذه العزلة والعجز؟ عبر عقود يصعب تقدير عددها، نجحت السلطة السياسية فى عزل النخب الفكرية عن الحراك السياسى الفعال عزلا لم ينج منه إلا بعض من تثق فيهم من أفراد يقبلون (وينجحون) بالانخراط فى إطار توجهاتها الحاسمة والحاكمة مع كل ما يختلط بها مما ليس فكريا، أفراد تترسخ لديهم ومعهم قيم الفردية والسلطوية والعلاقة الإدارية بما هو سياسى، وتهتز بالتالى قيم العمل الجماعى بل يكاد يغيب الأمل الفعال فى المردود الجماعى نفسه. إلا أن هذه الظاهرة لا تقتصر على هذين الطرفين وحدهما، أعنى إنها لا تقتصر على العلاقة بين السلطة والفكر. بعبارة أخرى، لم تفعل السلطة هذا بالفكر وحده، بل بكل أنواع الحراك المجتمعى وبحيث أصبحت تتحكم بخيوط خفية ومرئية بتفاصيل حياة المواطن الذى تشكلت علاقته بها على هذا الأساس، ووصل الأمر بتصديق موظفى السلطة لطبيعة هذه العلاقة أنهم كادوا يعتذرون عن زلزال 1992، كما انتشرت نكات (لا تخلو من دلالة فى سياقنا) عن مسئولية هيئة الأرصاد عن الأحوال السيئة للطقس. وكأن التواطؤ اشترك فيه المواطن والسلطة. لم يقتصر الأمر إذن على عزل النخب الفكرية، بل هو تفتيت لجميع القوى التى يمكن أن تنشأ وتتطور بشكل طبيعى (أى دون تنظيم سلطوى فوقى) فى المجتمع، واستخدمت فيه بعنف جميع المصالح اليومية والفردية من خلال بيروقراطية ليس لأحد مصلحة «مباشرة» فى تجاوزها اللهم إلا تيسير الحياة لا صناعتها، أما المصالح غير المباشرة، المصالح الآجلة والمشتركة، فهذا دور السلطة التى بيدها وحدها الأمر. لا أظن هذا جديدا على أحد، لكن ما أرغب فى التشديد عليه، فى هذا السياق الآمل، وبهذا الاستقبال الفرح للمبادرة/ التجربة السويفية، هو أن مسألة أن «الحل فى السياسة»، وعلى الرغم من أنها بدأت من ناحية السياسة عندما اعتبرت نفسها ممثلة تمثيلا وحيدا فى السلطة الحاكمة، قد بات عمليا هو الاختيار الوحيد وربما الأسهل للمواطن والنخب المعارضة أيضا. وكأن السياسة هى ما جعل الناس لا يرون الحل إلا فى السياسة، سواء عندما بدأت السلطة هذا المسار، أو عندما تبناه واستدرج إليه معارضوها؛ فخدموها. من هذا المنظور، أخشى ألا يتمخض الاقتراح السويفى إلا عن اقتراحات فكرية وصياغات مهما كانت حصيفة وثاقبة فإنها تظل موجهة للسياسيين بجناحيهم مرة أخرى، دون الالتفات لممكنات أخرى للحراك المجتمعى ربما تكون أولى فى هذا التوقيت خاصة، بغض النظر عن شخوص الأفراد أو الجماعات التى سوف تتخذ القرارات التنفيذية. إنها خشية لا يراد من ورائها إلا الحذر مما يمكن أن يعوق نمو هذا الاقتراح وتطوره؛ فلا ينبغى لها إذن أن تشكك فى جدارته بأى حال. لو لم يجد التراكم الفكرى من يتسلمه ليعمل عليه، أيا كان نوع العمل، فإنه سيفتقد المردود الذى يبرر استمراره؛ وبالتالى سيظل قصير النفس فرديا، فكيف يا ترى نتصور خيوط العملية التى سيتفاعل بها هذا الجهد مع المجتمع: السياسى وغير السياسى معا؟ من أجل نجاح المبادرة، حتى لو اكتفينا بصعيدها الفكرى الذى شدد عليه المقال، وفى ظل التركيز على الحاجة لتوصيف مصر الآن، ومن زاوية الابتعاد عن الخطوط العريضة والمبادئ المجردة؛ أغلب الظن أنه سيكون على المساهمين تفعيل وإنجاح «تواصل ما» مع السلطة الحاكمة نفسها، بعيدا عن الاستقطاب الجارى بين مؤيد ومعارض (وغير مهتم). على سبيل المثال لا الحصر: إذا كان المطلوب نجاحا عمليا، لا تصعيدا صوتيا وانفعاليا ولا محض صياغات لرؤى ثاقبة؛ فسيحتاج الراغب فى المساهمة (خاصة الفكرية منها) إلى تسهيلات معلوماتية وبيانات لن يوفرها له إلا «تعاون ما» من المتسلطين على هذه البيانات، وفى ظل «تآمن ما» معهم إن جاز التعبير، وهم فى حالتنا المصرية دائما من متنفذى الحكومة. فهل يا ترى هناك أمل فى تيار يتحلى بهذا الزهد فى البطولة وفى المناصب معا؛ فيقبل أن يعمل دون أن يستفيد من رونق المعارضة ولا من أبهة السلطة؟ لقد نجح الكاتبان فى ضرب مثال (متواضع واحد) عندما ألمحا إلى ضرورة الرجوع إلى جهود سابقة فى صياغة رؤى مستقبلية لمصر من بينها أحد مشروعات مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمحلس الوزراء. كما أن الإشارة الموضوعية فى المقال الذى لم ير فى الحكم الفاسد كل الأزمة التى تعيشها مصر تنطوى على شجاعة لا أعرف إلى أى مدى يمكن أن تجد فرصتها فى النمو وهى محصورة بين مطرقة الحكومة وسندان المعارضة؛ فهل يا ترى هناك أمل فى أن تأمن الحكومة جانب هؤلاء الساعين للإسهام فتساعدهم؟ لا أشك أنها عندها ستكون من الخالدين فى تاريخ مصر، وللأسف فإن على الصفوة المستهدفة بالاقتراح السويفى دور غير قليل فى شأن تفعيل هذه العلاقة (وطمأنة الحكومة) وصولا بها إلى ما وصلت إليه، وبه، الدول المتقدمة. هنا تظهر صعوبة «جدلية» (بين السعى للتغيير وضرورة تعامله/تعاونه مع المطلوب تغييره) لا أعرف كيف سيتمكن المخلصون من عبورها! إنه دور أخشى ألا يتفق مع المنحى الصاخب الذى نحته جماعة البرادعى تحديدا، وتشكيلات المعارضة المصرية بعامة. وأخيرا، فإن من سيستطيع التطهر من السياسة، ومن منافعها سواء على جانب السلطة أو على جانب المعارضة، سيكون أسهل عليه أن يندرج ويسهم فى عمل مشترك، وأن يفرز قياداته، سواء تمثلت فى محمد غنيم، أو محمد أبو الغار اللذين سماهما المقال، أو فى غيرهما من المخلصين لهذا الوطن الحريصين على استمرار دولته. وفى كل الأحوال: يبدو لى الأمل أكبر مما يبدو لكثيرين، فالشكر واجب.