نصوص فريدة تعتمد على تيمة «مكانة الأم» فى المجتمع البدوى صورة مرسومة بعناية، داخل نص عميق وثرى عن تاريخ عائلة من بدو الفيوم، طرأت عليهم تحولات استدعت التأمل والرصد، من جانب الكاتب الكبير الراحل «حمدى أبو جليل»، فى آخر أعماله قبل الرحيل، رواية «ديك أمى» الصادرة عن دار الشروق، والتى عززت مكانته كروائى من طراز فريد، استطاع التعبير عن أفكاره الخاصة. أبدع أبو جليل بقلمه صورة معبرة عن العائلات والزواج ووضع المرأة ووصف البيت الريفى بدوى الأصل، والذى تحولت الحياة داخله لتصبح حياة ريفية بكل ما فيها من تفاصيل جذابة، تتناسب تماما وشخصية أبو جليل الأدبية، التى لطالما لجأت إلى التمرد على المألوف فى الأدب والإبداع. يصطحب أبو جليل قارئه منذ البداية فى جولة تعريفية بعوالمه الخاصة، فنجده فى الفصل المعنون «ديك أمى»، يقول إن الديوك لم تكن ديكًا أو ديكين أو ثلاثة، وإنما هى أجيال متعاقبة من الديوك الحاكمة المتوجة على مملكة دارنا، تختار أمه كل عام ديكًا صغيرًا وهو كتكوت، وترعاه رعاية خاصة، وتحافظ على صحته وطعامه، وتُطعمه صفار البيض بيدها، حتى يبلغ سن التعريف، أى أن يصبح له عرف أحمر على جبهته الحمراء، ويؤذن، ويبدأ بفرض سيطرته على طيور الدار باعتبارها مملكته. استعان حمدى أبو جليل من أجل المضى فى رسم تلك الصور الأدبية المميزة، بسلاح السخرية القاسية التى طالت جميع التفاصيل والموجودات من حوله، سواء كانوا البشر أو علاقاتهم أو البيوت وفضاءات الزمان والمكان ومدلولاتهم. ينسج حمدى أبو جليل فى روايته، تفاصيل مميزة عن شخصيات لها أبعاد إنسانية عميقة، تمضى فى مشوارها وطريقها بالحياة، لتصارع رغباتها وخوفها وهواجسها التى لا تنتهى. اتسمت آخر روايات حمدى أبو جليل بأن لها طابعا سحريا خاصا يغلفها، ويضمن لها التفرد وسط كتبه السابقة، من الروايات والقصص قصيرة، التى يجد قارئ حمدى أبو جليل نفسه فى فضاء مدينى يحيا فيه المهمشون من الرجال والنساء وهم يصطدمون مع أنفسهم ومع الآخرين من البشر والمؤسسات، لكنه هنا فى كتابه الأخير سيكون أمام حالة من الولوج إلى خبايا ودهاليز داخلية فى شخصية أبو جليل ذاته. «غادر حمدى أبو جليل فى روايته «ديك أمى» خارج صخب المدن ليعود إلى الداخل؛ إلى مسقط رأسه»، هكذا رأى الناقد الأدبى الدكتور محمد بدوى، الذى يواصل حول تلك النصوص الأثيرة للراحل حمدى أبو جليل، بقوله: سرد الراحل تاريخ المكان وجعل من حكاياته اليومية الصغيرة حكاية كبرى. ليتطرق بعدها إلى أن هذا الكتاب يشير إلى عالم صلابته نابعة من البحث عن معنى للوجود عبر سرد قصة الأم الفلاحة ذات الأصل البدوى التى تملك يقينا يكاد يصبح ذات طابع إيمانى دينى، بواجب محدد، هو الذود عن أطفالها بعد موت الأب واهن الحضور، خائر القلب، المنسحب إلى ظل «الموت» الذى يحضر بقوة فى السرد بوصفه دلالة على تدفق الحياة وتجددها. تمتاز لغة حمدى أبو جليل بالحيوية الملحوظة، والتى تجعل القارئ متوحدا مع النص الذى يميزه الإيقاع السريع، الأمر الذى نلمسه فى المقتطف التالى: «جيل أمى هو الجيل البدوى المصرى الذى تحققت فيه إصلاحات محمد على باشا لتوطين البدو المصريين. تحولوا كما خطط وأراد من البداوة للفلاحة، انتقلوا من الرعى للزراعة ومن الخيمة المتنقلة للبيت المستقر للأبد. جيل أبيها انتقل أيضًا وامتلك الأرض الزراعية وعاش فى البيوت الحجرية ولكنه لم يصدق أو لم يستعب أو لم يتهيأ للفلاحة والاستقرار وجيل أمى فهم واستوعب وصدق وصاروا فلاحين وكأنما ولدوا أساسا فلاحين ولا تستطيع أن تفرق بينهم وبين الفلاحين إلا فى اللهجة التى ذهبت أخيرا أو كادت مع جيلى التليد. حمدى أبو جليل هو كاتب وروائى من مواليد الفيوم، انعكست نشأته على أسلوبه السردى حيث استفاد فى كتاباته من تجاربه فى الحياة عبر لغة مختلفة استقاها من خلفيته البدوية، وكذلك من عمله ببعض المهن اليدوية مثل عامل البناء أو «الفاعل» الذى كان عنوانا لإحدى رواياته. صدرت له 3 مجموعات قصصية، هى «أسراب النمل» 1997 و«أشياء مطوية بعناية فائقة» 2000 و«طى الخيام» 2010. كما أصدر عدة كتب، منها «القاهرة.. شوارع وحكايات» و«القاهرة.. جوامع وحكايات» و«الأيام العظيمة البلهاء.. طرف من خبر الدناصورى» و«نحن ضحايا عك.. رواية أخرى للتاريخ الإسلامى». كما صدرت له 5 روايات، هى «لصوص متقاعدون» 2002 التى ترجمت إلى الإنجليزية والفرنسية والإسبانية، و«الفاعل» 2008 التى فازت بجائزة «نجيب محفوظ للرواية العربية» وترجمت إلى الإنجليزية، و«قيام وانهيار الصاد شين» 2018، و«يدى الحجرية» 2021، ثم رواية «ديك أمى» وهى آخر مؤلفاته.