صبحت أرمينيا على وشك صياغة سياسة خارجية جديدة. فقد كانت موافقة موسكو الصامتة خلال حرب اليوم الواحد، والتي سيطرت فيها أذربيجان على إقليم ناجورنو-كاراباخ المتنازع عليه منذ فترة طويلة مما دفع كل الأرمن في كاراباخ إلى الفرار، يعني أن معظم الأرمن لم يعودوا يرون روسيا كحليف، ناهيك عن ضامن للأمن. ومن المرجح أن تتجه أرمينيا إلى الغرب وإلى تقديم مبادرات إلى قوى كبيرة أخرى، وبشكل خاص الهندوإيران. وقال ميكائيل زوليان المحلل في مركز الدراسات الإقليمية في يريفان عاصمة أرمينيا في تقرير نشرته مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي إنه في الوقت نفسه، ستسعى يريفان إلى الحفاظ على علاقات بناءة مع موسكو. وعلى الرغم من صدمة خسارة ناجورنو-كاراباخ، ستكون هناك جهود مستمرة لحل الصراع القائم منذ فترة طويلة مع أذربيجان وتطبيع العلاقات مع تركيا. وأشار زوليان إلى أنه بالنسبة للنخبة في أرمينيا وكذلك الشعب بشكل عام، دمرت الأحداث في ناجورنو-كاراباخ- والتي يرون أنها تطهير عرقي- فكرة أن روسيا ضامن للأمن: وهي فكرة كانت شائعة منذ بداية القرن التاسع عشر، لدرجة أنها أصبحت جزءا من الهوية الوطنية الأرمنية. الآن، وعلى الرغم من حل الأزمة المباشرة، لن ينظر الأرمن إلى الروس بنفس الطريقة مجددا. وأوضح زوليان أنه بالطبع، كان هناك دائما مواطنون أرمن يدعون إلى إقامة علاقات أوثق مع الغرب، وذلك من خلال الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (الناتو)، لكنهم كانوا بمثابة استثناء حتى حرب كاراباخ الثانية عام 2020 . وحتى الثورة المخملية عام 2018 التي أوصلت رئيس الوزراء نيكول باشينيان إلى السلطة لم تغير آفاق السياسة الخارجية للنخبة. وبينما وجد باشينيان أرضية مشتركة مع القادة الغربيين الأصغر عمرا، مثل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو، لم تكن هناك أي محاولة لرسم مسار موالي للغرب بشكل أكبر. كما أثار باشينيان غضب الولاياتالمتحدة من خلال إرسال أطباء ومهندسين عسكريين إلى سوريا في إطار التدخل العسكري الروسي لدعم الرئيس بشار الأسد. ورغم أن حرب عام 2020 كشفت أن يريفان معزولة دوليا فيما يتعلق بناجورنو-كاراباخ، تمكنت روسيا من الاحتفاظ جزئيا بسمعتها بين الأرمن من خلال منع التدمير الكامل لقوات ناجورنو-كاراباخ أو التطهير العرقي هناك ونشر قوات حفظ سلام. ولكن فقط عندما غزت روسياأوكرانيا في عام 2022، أدركت يريفان أن الوضع الراهن لا يمكن الدفاع عنه. وقال المحلل زوليان، وهو أستاذ مشارك في جامعة يريفان لللغويات، وحاصل على الدكتوراه في التاريخ، إن يريفان بدأت في النأي بنفسها عن موسكو في ربيع ذلك العام، والسعى إلى إقامة علاقات أوثق مع الغرب والإعراب عن استعدادها للتوصل إلى تسوية بشأن ناجورنو-كاراباخ. وقد كان هناك إدراك متزايد أنه لا جدوى من المقاومة. وفي حين أن الغرب قدم دعما دبلوماسيا لأرمينيا خلال الاشتباكات مع أذربيجان في سبتمبر عام 2022، ظلت روسيا محايدة بوضوح. وظل بعض الأرمن، وخاصة الحكومة الفعلية في ناجورنو-كاراباخ، متمسكة بالنموذج القديم، معتقدين أن قوات حفظ السلام الروسية تعد ضمانة حقيقية ضد أي هجوم أذربيجاني جديد. ولكن حرب اليوم الواحد خلال العام الجاري وما تبعها من فرار للأرمن من كاراباخ أثبتت حتى لأكثر الموالين لروسيا من الأرمن أن موسكو إما غير مستعدة أو غير قادرة على حمايتهم. ولم تتدخل روسيا حتى لمساعدة السياسيين في ناجورنو-كاراباخ الذين ينظر إليهم على أنهم موالون لروسيا. وبعد سيطرتها على الإقليم، اعتقلت أذربيجان ثلاثة رؤساء سابقين للجمهورية المعلنة من جانب واحد، وهم أركادي غوكاسيان وباكو ساهاكيان وأرايك هاروتيونيان، بالإضافة إلى رجل الأعمال الروسي الأرمني البارز روبن فاردانيان، ولا يزالون جميعا في السجن في أذربيجان. وعلى عكس التوقعات، لم تتسبب خسارة ناجورنو-كاراباخ في سقوط باشينيان. وبدلا من ذلك تسببت في إضعاف المعارضة الموالية لروسيا في أرمينيا، وساعدت في تشكيل إجماع جديد على أن استمرار التحالف مع روسيا مستحيل. وتساءل زوليان عن شكل السياسة الخارجية الأرمنية في مرحلة مع بعد روسيا، قائلا إن أخطر مشكلة، بالطبع، لا تزال هي الصراع مع أذربيجان وداعميها الأتراك. وقد كان المسؤولون الأذربيجانيون أقل عدوانية في خطابهم منذ السيطرة على ناجورنو-كاراباخ، إلا أن الرئيس إلهام علييف ليس متعجلا لتوقيع أي وثائق لتطبيع العلاقات. وربما تكون خسارة ناجورنو-كاراباخ، على عكس المتوقع، قد أقنعت يريفان أن حل الصراع مع أذربيجانوتركيا أصبح أكثر إلحاحا من أي وقت مضى. ويواجه هذا الخطاب السلمي بعض المعارضة الداخلية، إلا أن معظم النخبة الأرمنية يعتقدون أن هذا هو الخيار الوحيد، وأن أي موقف آخر سيؤدي ببساطة إلى تصعيد جديد وهزيمة ثانية. وقد كثف المسؤولون الأرمن الاتصالات مع نظرائهم الغربيين، وتصر يريفان على أنها ترغب في مناقشة اتفاقية سلام مع باكو في مكان ما في الغرب، وليس في روسيا. وفي تشرين الأول/أكتوبر، وقعت أرمينيا اتفاقية مع فرنسا لاستيراد معدات عسكرية. ومع ذلك، لا ترغب يريفان في تكرار أخطاء الماضي من خلال الاعتماد بدرجة كبيرة للغاية على حليف واحد. ونتيجة لذلك، من المستبعد أن يقتصر بحثها عن شركاء جدد على الغرب فقط. ورأى زوليان أن الخيار الأكثر وضوحا بالنسبة لأرمينيا عندما يتعلق الأمر بحليف غير غربي، هو إيران، التي قالت أكثر من مرة إنها تدعم وحدة أراضي أرمينياوأذربيجان. كما أعربت إيران أيضا عن معارضتها لإقامة ممر خارج الحدود عبر جنوبأرمينيا لربط أذربيجان بجيب ناخيتشيفان التابع لها. وأشار إلى أن الشريك الآخر من الجنوب الذي تأمل يريفان في التحالف معه هو الهند. وقد اهتمت نيودلهيبأرمينيا بعد حرب عام 2020، عندما دعمت باكستانأذربيجان أيضا. وقد نمت العلاقات بين الجانبين منذ ذلك الحين، حتى وصلت إلى عمليات تسليم أسلحة. ويرى زوليان أنه على الرغم من ذلك فإن أيا من الشركاء النظريين الجدد لأرمينيا لا يمكن أن يحلوا محل روسيا كضامن للأمن. فلا تزال أرمينيا معتمدة أيضا على روسيا فيما يتعلق بقضايا أخرى مثل الطاقة والنقل. وسيكون من السذاجة التفكير في الغرب على أنه يمكن ببساطة أن يكون بديلا لروسيا في كل تلك المجالات- خاصة في ظل الحرب المشتعلة في أوكرانيا والشرق الأوسط. ويكرر الكثيرون في يريفان شعار "إذا خسرنا روسيا كحليف، يجب على الأقل أن نضمن عدم تحولها إلى عدو". وللأسف، فإن أي خطوت أرمنية صوب الغرب، سينظر اليها في موسكو على أنها عملا عدوانيا. ولا يزال الكرملين يمتلك الكثير من الطرق لممارسة النفوذ على يريفان: فقد يمنح باكو الضوء الأخضر لشن عملية عسكرية أخرى أو يوقف صادرات الغاز الطبيعي أو يقوم بترحيل الأرمن العرقيين من روسيا، على سبيل المثال. ورغم أن مثل هذه الإجراءات المتطرفة ستضر أرمينيا، فإنها لن تعيدها إلى مجال النفوذ الروسي. وبدلا من ذلك، فإنها ستعزز فقط المشاعر المناهضة لروسيا وتكثف بحث يريفان عن شركاء جدد. واختتم زوليان تحليله بالقول إنه لذلك، هناك أسباب مهمة تدعو للأمل في أن تتمكن موسكو ويريفان من تجاوز خلافاتهما الحالية وبناء شراكة جديدة، أو على أقل تقدير الحصول على انفصال أو طلاق متحضر. إلا أن تاريخ علاقات روسيا مع دول الاتحاد السوفيتي السابق يظهر أن موسكو لا تتصرف دائما بعقلانية في مثل هذه الأمور.