المشهد الأول: تَطَلَّع «روبسبير» زعيم الثورة الفرنسية وفيلسوفها فى وجوه رجاله بعد ثلاث سنوات من بدء الثورة، وهم يتبادلون الأنخاب فى إحدى حانات (باريس)، ويصرخون فى مرحهم الصاخب بأغانى النصر ونشيد المارسيليز الذى صار اللحن الوطنى الرسمى منذ نجاح الثورة فى القضاء على الملكية وإعلان الجمهورية بإنزال المقْصَلَة الشهيرة على رقاب كل من يشُكّ الثوريون أنه كان ضالعا فى العهد البائد فى أى عمل يخص المَلَكية الزائلة. حتى إن الثوار كانوا يفخرون بأنهم قد أعدموا خياطة الملكة وحارس الحديقة الملكية، وكل مَن اعتبروه ملوَّثا بميكروب المَلَكية البائدة، وإن كان عاملا أو أجيرا. وبعد أن لعِبَت الخَمْر برأس الزعيم، بدأت بعض الكلمات الغريبة تتساقط من فمه بينما رأسه يتراجع للخلف صائحا: «وأنتم أيضا يا مَن تظنون أنفسكم من كبار زعماء الثورة ورجالها المخلصين، ولستم فى الحقيقة إلا خونة يمكنكم أن تبيعوا قضية الثورة إذا سنحت لكم الفرصة.. فلقد اكتشفت بفطنتى أن فيكم جبناء وأنذالا ففقدتم ثقتى الغالية»... واندفع الزعيم يشتم رفاقه وهو يضحك ويرشف الجرعة الأخيرة من زجاجة الخمر ويتراجع إلى سريره فى ركن الحانة ليغط فى نوم عميق. وتساءَل الرفاق فى جزع حقيقى: «هل كان الرجل يهذى أم يعترف تحت تأثير الخمر بما يدور فى نفسه من نوايا سيئة تجاه رفاق الرحلة القاسية؟ وبدأ أحدهم يصرخ فيهم قائلا: «أما سمعتم الرجل يهذى ويهمس لنفسه: لسوف أحاكمهم هؤلاء الخونة بتهمة الخيانة العظمى لمبادئ الثورة. وعندى من الأدِلَّة ما يجعلنى أدفع ببعضهم إلى المقصلة. فقد صارت المقصلة لا تعمل هذه الأيام إلا كلما سنحت الفرصة لاتهام البعض القليل العدد بالخيانة. ولم نفرح ونحن نرى الدماء تغمر أرصفة شوارع باريس». ورد عليهم زميل يتَّسم وجهه بالدهاء: «ولم لا نتغدى بالزعيم (روبسبير) قبل أن يتعشى بأحدنا، بعد أن صار متعطشا للدماء حتى ولو كانت دماء رفاقه الذين أخلصوا له ولمبادئ الحرية والإخاء والمساواة؟». وفى الصباح الباكر وقبل أن يستيقظ الزعيم من غفوته العميقة كان الرفاق قد اصطفوا على مقاعد المحكمة الثورية، وقد احتل أحدهم مقعد (روبسبير) المميز فى قلب قاعة المحكمة. وجاء (روبسبير) متأخرا يترنح من تأثير ليلة الأمس. واتجه مباشرة إلى منصة المحكمة الثورية ليتبوّأ مقعده المعروف. فوجد فيه أحد الرفاق الذى أشار بإصبعه له ليتجه إلى قفص الاتهام الذى سبق ل(روبسبير) أن دفع إليه بالمئات من المتَّهمين. وضحك (روبسبير) غير مصدّق قائلا لرفاقه: «تريدون أن تعكسوا الأوضاع للترفيه والتسلية حسنا هأنذا أدخل القفص لنستكمل المسرحية الهزلية». وسقطت المقصلة هذه المرة على رقبة صاحبها الذى قُتِل وعلى ملامحه علامات الذُعْر وعدم التصديق. • • • المشهد الثانى: استمرت أحداث الثورة الفرنسية لمدة أربعة عشر عاما من الفوضى والترويع والقتل والنهب، حتى صار المجتمع الفرنسى ممزقا مفككا فاقدا لجميع ملامح الحياة الإنسانية. فلا بيع ولا شراء ولا إنتاج ولا عمل. فقط، كابوس مخيف يدفع ببعض القُرى الفرنسية لممارسة الهجوم على القرى المجاورة لها بدعوى الانتقام من أصحاب المذاهب الدينية المخالفة. فالقرية الأكبر عددا كانت تغير على القرية الأصغر والأضعف لنهبها باسم المذهب الكاثوليكى أو البروتستانتى والعكس. وهنا، بدأَت الدول المحيطة بفرنسا تقترح تقسيم الخريطة الفرنسية على الجيران. وبدأّت مُباحثات التقسيم بين بريطانيا وألمانيا والنمسا وهولاندا.. إلخ. ولكن الأقدار كانت ترسم طريقا آخر لتلك الأُمّة الممزقة على يَد جاويش كورسيكى يُسمى ب(نابليون بونابرت) كان قد التحق بالجيش الفرنسى من عِدّة سنوات. ومن خلال تِجواله فى شوارع باريس الكئيبة، ساقته قدماه إلى قصر التويلرى الملكى القديم. فصعَد الدرج متباطئا ليصل للشرفة الملكية المهدَّمة، ليطلّ على الميدان الفسيح الذى تناثرت الجثث فى طرقاته دون أن تجد من يدفنها. فقام بسرعة بجرّ مدفعين قديمين ليضعهما على حافة الشرفة المهملة، ويصيح بأعلى صوته موجها إنذاره إلى المارة بالميدان قائلا: من يريد الاستمرار فى الثورة التى مزَّقَت فرنسا فليأت إلى مرمى المدافع التى نصبتها هنا. ويصِف (كارل ماركس) تلك اللحظة الدرامية فى كتابه «18 من برومير لويس بونابرت» بقوله: «فى تلك اللحظة التاريخية الحاسمة ظهرت البزّة العسكرية والشارب الذى تميّز به الجنود الفرنسيون فى الشارع لأول مرة بعد 14 سنة من التمزُّق والصراع والجثث المتناثرة. وفى هذه اللحظة فقط استتب الأمن فى أرجاء فرنسا ليخرج الفرنسيون وقد استشعروا الأمان لأول مرة بعد أن دفع المجتمع الفرنسى فاتورة الثورة التى كادت أن تقضى على اسم فرنسا وتغيِّبه فى ظلمات التاريخ». • • • المشهد الثالث: وبالمقارنة بين المشهدين السابقين بالمسرح الفرنسى وبين المشهد الثالث بأرض المحروسة، نكتشف تلك الدرجة العظيمة من النُضج السياسى والوطنى والتى تمتع بها المصريون فى معالجة أحداث يناير 2011. فخلال أسبوعين فقط من الفوضى التى هدَّدت السلام والأمن فى ربوع مصر، انطلق الشعب يهتف مستغيثا فى كل الشوارع بأبنائه أصحاب البدلة الكاكى: «واحد اتنين.. الجيش المصرى فين؟!». فالشعب المصرى يؤمن ويثق فى أبنائه الذين يرتدون الكاكى، الذين يدركون منذ قام الملك (مينا) بتوحيد القطرين، منذ آلاف السنين، فتعرَّف رجال الجيش المصرى على مهمتهم المقدسة بحماية الموقع ووضع السياج العسكرى حول الموضع كما قالها العظيم (جمال حمدان) فى كتابه «شخصية مصر» وصاغها الأبنودى فى أشعاره قائلا: «والجيش فى مصر رباه شعبه على كيفه.. الجيش يحمى الشعب والشعب يحتمى بجيشه». وعندما اندفعت الدبابات والعربات المجنزرة وفى قمتها «ملائكة الكاكى» يحملون السلاح لنصرة شعبهم، استقبلتهم نساء المحروسة بالزغاريد وإشارات الحب والبهجة. وقد بدأ الناس يشعرون بالاطمئنان. فعاش المصريون فى لحظة تاريخية معاصرة (الآن) ما كانوا يقرأونه فى كُتُب التاريخ عن أحداث شبيهة حدثت فى الماضى سبق ذكرها فى المشهد الأول والثانى. فإذا فتَّشنا فى أعماق الشخصية المصرية، سنجد «بدلة كاكى» تحت كل زى مدنى، والعكس صحيح. فالحرب ليست وجهتنا ولا هدفنا وإنما الدفاع الوطنى والجهاد، لنصرة الأمة البنَّاءة الفاعلة التى يعود جنودها إلى المصنع والحقل والوظيفة المدنية، بعد أن يتحقَّق النصر العظيم على أيديهم. فلم تكن الجندية فى المحروسة حِرفة أو ارتزاقا كما كانت عند الدول الأخرى. وإنما هى الفريضة المقدَّسة والدور الأهم كما أوضحها الأبنودى بقوله: «دى حربنا فى شرف حروب النبى».