ضم التاريخ الإسلامي العديد من الأئمة والفقهاء، الذين أثروا العالم بعلمهم ومؤلفاتهم، وتتلمذ على يديهم الكثير، واستفاد الناس من فتواهم في شئونهم الحياتية. لذلك، تعرض "الشروق"ن في شهر رمضان الكريم وعلى مدار أيامه، حلقاتها اليومية من سلسلة "أشهر الأئمة في التاريخ الإسلامي"؛ لتأخذكم معها في رحلة نتعرف فيها على شخصيات تاريخية إسلامية سطرت اسمها بحروف من نور. وفي هذه الحلقة، نذكر مقتطفات من حياة الإمام الذهبي، من كتاب تاريخ "الإسلام للإمام الذهبي". - مولده ونشأته ولد أبو عبد الله الذهبي، في كفر بطنا قرب مدينة دمشق يوم 3 ربيع الآخر 673 ه، ونشأ في أسرة تركية الأصل كانت تسكن دمشق، ثم سكنت مدينة ميافارقين من أشهر مدن ديار بكر، وكان والده يعمل في صناعة الذهب فبرع فيه وتميز حتى عُرف ب"الذهبي". وكان أبوه رجلا صالحًا محبًا للعلم، فعني بتربية ولده وتنشئته على حب العلم، وكان كثير من أفراد عائلته لهم انشغال بالعلم، فشب الوليد يتنسم عبق العلم في كل ركن عمته ست الأهل بنت عثمان لها رواية في الحديث، وخاله علي بن سنجر، وزوج خالته من أهل الحديث. وفي سن مبكرة انضم إلى حلقات تحفيظ القرآن الكريم، حتى حفظه وأتقن تلاوته، ثم اتجهت عنايته لما بلغ مبلغ الشباب إلى تعلم القراءات وهو في الثامنة عشرة من عمره، فتتلمذ على شيوخ الإقراء في زمانهِ كالعسقلاني، والشيخ جمال الدين أبي إسحاق إبراهيم بن غال، وقرأ عليهما القرآن بالقراءات السبع، وقرأ على غيرهما من أهل هذا العلم حتى أتقن القراءات وأصولها. وفي الوقت الذي كان يتلقى فيه القراءات، مال "الذهبي" إلى سماع الحديث الذي ملك عليهِ نفسه فاتجه إليه، واستغرق وقته، ولازم شيوخه، وبدأ رحلته الطويلة في طلبه. - رحلاته في طلب العلم كانت رحلاته الأولى داخل البلاد الشامية، فنزل بعلبك سنة 693 ه، وروى عن شيوخها، ثم رحل إلى حلب وحماة وطرابلس والكرك ونابلس والرملة والقدس، ثم رحل إلى مصر سنة 695 ه، وسمع من شيوخها الكبار، على رأسهم ابن دقيق العيد المتوفي سنة 702 ه، وذهب إلى الإسكندرية فسمع من شيوخها، وقرأ على بعض قرائها المتقنين القرآن بروايتي ورش وحفص، ثم عاد إلى دمشق. وفي سنة 698 ه، رحل الإمام الذهبي إلى الحجاز لأداء فريضة الحج، وكان يرافقه في هذه الرحلة جمع من شيوخه وأقرانه، وانتهز فرصة وجوده هناك فسمع الحديث من شيوخ مكة والمدينة. - دراسة النحو واللغة رغم أن تركيز الإمام الذهبين الرئيس انصب على الحديث، فقد درس النحو والعربية على الشيخ ابن أبي العلاء النصيبي، وبهاء الدين بن النحاس إمام أهل الأدب في مصر، واهتم بدراسة المغازي والسير والتراجم والتاريخ العام. وبعد أن أنهى الإمام الذهبي، رحلاته في طلب العلم والأخذ عن ما يزيد عن الألف من العلماء، اتجه إلى التدريس وعقد حلقات العلم لتلاميذه، وانغمس في التأليف والتصنيف، وبدأت حياته العلمية في قرية "كفر بطنا" بغوطة دمشق، حيث تولى الخطابة في مسجدها سنة 703 ه، وظل مقيمًا بها إلى سنة 718 ه. جمع "الذهبي" بين ميزتين لم يجتمعا إلا للأفذاذ القلائل في تاريخنا، فهو يجمع إلى جانب الإحاطة الواسعة بالتاريخ الإسلامي حوادث ورجالاً، والمعرفة الواسعة بقواعد الجرح والتعديل للرجال، فكان وحده مدرسة قائمة بذاتها. كما أنه كان من العلماء الذين دخلوا ميدان التاريخ من باب الحديث النبوي وعلومه، وظهر ذلك في عنايته الفائقة بالتراجم التي صارت أساس كثير من كتبه، ومحور تفكيره التاريخي، وقيل إنه سُمي الإمام الذهبي بالذهبي؛ لأنه كان يزن الرجال كما يزن الجواهري الذهب. - مؤلفاته ترك الإمام الذهبي، إنتاجًا غزيرًا من المؤلفات بلغ أكثر من مائتي كتاب، شملت كثيرًا من ميادين الثقافة الإسلامية، فتناولت القراءات والحديث ومصطلحه، والفقه وأصوله والعقائد والرقائق، غير أن معظم مؤلفاته في علوم التاريخ وفروعه، ما بين مطول ومختصَر ومعاجم وسير. وثلث هذا العدد مختصرات كتبها الإمام الذهبي لأمهات الكتب التاريخية المؤلفة قبله، فاختصر تاريخ بغداد للخطيب البغدادي، وتاريخ دمشق لابن عساكر، وتاريخ نيسابور لأبي عبد الله الحاكم النيسابوري، وتاريخ مصر لابن يونس، وكتاب الروضتين في أخبار الدولتين لأبي شامة، والتكملة لوفيات النقلة للمنذري، وأسد الغابة لابن الأثير، ومن أهم مؤلفاته كتاب سير أعلام النبلاء وكتاب تاريخ الإسلام. - وفاته ظل الإمام الذهبي موفور النشاط، ييدرس في 5 مدارس للحديث بدمشق، ويواصل التأليف حتى كل بصره في آخر حياته، وفقد الإبصار تماما، ومكث على هذا الحال حتى تُوفي ليلة الإثنين 3 ذو القعدة 748 ه.