يقف الائتلاف الإسلامى الحاكم فى تركيا وجها لوجه ضد المحاكم والجيش فى مواجهة تحدد مستقبل الأمة. هل ستقترب تركيا أم ستبتعد عن الديمقراطيات الليبرالية؟ لقد مزق هذا التوتر تركيا منذ إنشائها كدولة علمانية على يد أتاتورك. لكن التوترات فى أوجها الآن.. لقد ظل حزب العدالة والتنمية الحاكم وحلفاؤه من غلاة المحافظين، حركة فتح الله جولين، المعروفة بحركة الجولينيين، يرسلون عملاء شرطة متعاونين معهم للتنصت الإلكترونى على كبار ضباط الجيش واعتقالهم بتهمة التخطيط لانقلاب على الحكم. ويقوم حاليا مدعون عامون من أتباع الحركة الجولينية باعتقال مدعين عامين علمانيين كانوا يحققون فى شبكات تمويل تديرها الحركة وفى علاقاتها بإرهابيين فى الشيشان وحركة حماس.. والسؤال هو إن كان حزب العدالة والتنمية سيستفز الجيش والقضاء وهما عمادا نظام أتاتورك العلمانى بحيث يردان الهجوم أم أنه سيجد وسيلة سلمية للخروج من المشكلة. منذ اللحظة الأولى التى اعتلى فيها حزب العدالة والتنمية سدة الحكم عام 2002، شهدت تركيا صراعا خفيف الحدة بين الحزب الإسلامى المعتدل والمؤسسات العلمانية وعلى رأسها المحاكم والجيش. وتزداد حدة الصراع مع تقرب حزب العدالة والتنمية إلى الجولينيين المتعطشين للسلطة، والذين يعملون على اختراق المؤسسات العلمانية. وفى الأسبوع الماضى قامت الشرطة، المرتبطة بجولين على الأرجح، باعتقال 49 ضابطا عسكريا، من بينهم ضباط برتبة أميرال لا يزالون فى الخدمة وقادة سابقون من الأسطول وسلاح الجو التركى، ووجهوا لهم اتهامات بتأليف مذكرة قوامها 5000 صفحة تحذر من أن الجيش التركى كان قد خطط لتفجير مساجد إسطنبول التاريخية وإسقاط طائرات خاصة به لتبرير الانقلاب. ولم يقتنع أحد بهذه التهمة السخيفة. وقد قال لى سفير أمريكى سابق فى تركيا: «إن كان الجيش التركى قد خطط لانقلاب، فإنهم لن يكتبوا مذكرة تتكون من 5000 صفحة حول ذلك».. ومع ذلك لا تزال تركيا غارقة فى الإشاعات حول الانقلاب وتصريحات الإنكار. وقد تفجرت حالة السعار حول الانقلاب بعد ثلاثة أيام فقط من نشر صحيفة جهادية محتوى تسجيل لمكالمة هاتفية مسربة قام بها رئيس هيئة الأركان يقول فيها إن الجيش تم اختراقه. وعلى الرغم من أن القانون التركى يحرم التنصت إلا بإذن من المحكمة وكذلك نشر محتوى المكالمات المسجلة، لكن تم فى السنوات الأخيرة تسريب الكثير من مكالمات الجيش، وكانت أول ما تنشر فى وسائل الإعلام المؤيدة لجولين. وقد تشكل هذه الحملة المعركة النهائية للسيطرة على تركيا. ففى التسعينيات من القرن الماضى، قام الجيش بطرد أعضاء فى الحركات الإسلامية وأتباع جولين من صفوفه، مما أجبر مؤسس الحركة على الرحيل إلى الولاياتالمتحدة، حيث لا يزال يقيم. ولكن بحلول عام 2000، بدأت عودة الجولينيين، وذلك من خلال إعادة تثبيت أنفسهم فى المؤسسات البيروقراطية وتأسيس مكاتب علاقات عامة فى الغرب. وفى عام 2002، دعموا حزب العدالة والتنمية فى الانتخابات التى جلبت الإسلاميين للسلطة، وبالمقابل، قام حزب العدالة والتنمية بتعيين الجولينيين فى مناصب رئيسية فى كل مؤسسة علمانية، ابتداء بالمحاكم وحتى فى مجموعات الضغط فى مجال الأعمال وكذلك الإعلام، ما عدا الجيش. والهدف من الضغط الحالى من قبل الحركة الجولينية على الجيش هو تحطيم القلعة العلمانية الأخيرة. وأحد المخرجات المحتملة لهذه العملية هو أن الجيش إن تحطمت معنوياته قد يقبل الإسلاميين فى صفوفه، ويخسر بالتالى هويته. وقد يستجيب الجيش لاستفزازات جولين بأن ينفذ لا سمح الله الانقلاب المتهم بالتخطيط له. وقد يدمر ذلك موقف الجيش كحام للديمقراطية ويعزز من شعبية حزب العدالة والتنمية المتراجعة حاليا بسبب ارتفاع معدل البطالة بشكل هائل وفشل جهوده فى تهدئة الإرهابيين الأكراد. وسوف يميل الشعب التركى إلى الطرف الأضعف. من ناحيتها تمر المحاكم بمأزق مشابه. لقد بنى أتاتورك مؤسسة قضائية علمانية للدفاع عن جمهوريته المقامة على النموذج الأوروبى. وفى عام 2008 شرعت المحاكم فى قضية الهدف منها إغلاق حزب العدالة والتنمية على أساس أنه يفرض القيود الدينية على المؤسسات العلمانية، وخسرتها. وما كان من تلك المحاولة إلا أن عززت من شعبية الحزب والذى تزايدت النزعة السلطوية فيه منذ ذلك الحين، فرفض أدوات الرقابة عليه وسار فى دعوى قانونية ضريبية وجنائية ضد أباطرة الإعلام. وقد يكون لأى مساعٍ قضائية جديد لإغلاق الحزب ردة فعل معاكسة أيضا. والوسيلة الوحيدة أمام حزب العدالة والتنمية للخروج من المأزق هى أن يدعو إلى انتخابات جديدة، والتى من شأنها أن تسكت النقاد الذين يقولون إن الحزب يحكم بسلطوية متزايدة ويضرب بيد الإسلام. وعلى الرغم من أنه من غير المحتمل أن يحقق حزب العدالة والتنمية فوزا مريحا كما فعل فى المرة السابقة، إلا أن الانتخابات الجديدة سوف تطفئ فتيل الإشاعات حول الانقلاب وتعطى السلطة لتقرير مستقبل تركيا لمن يستحقها: الناخبون.