فى الثانى عشر من ربيع الأول من كل عام نحتفل بالمولد النبوى الشريف، وتتنوع أشكال الاحتفال ومستوياته ما بين الاحتفال الرسمى الذى تقيمه مؤسسات الدولة المختلفة، والاحتفالات الأهلية التى تنظمها الطرق الصوفية. وقد ابتكر الشعب المصرى أشكاله الخاصة للاحتفال بالمولد النبوى الشريف، تلك الأشكال التى تعبر عن روح الشعب المصرى وحضارته، وتتميز وتختلف عن أشكال الاحتفال فى بلدان العالم الإسلامى الأخرى. وربما كانت حلوى المولد وعرائسه هى أشهر طقوس الاحتفالات الشعبية فى مصر، فالعروسة الحلاوة تقليد مصرى صرف يرتبط عادة بمناسبة سعيدة هى المولد النبوى الشريف. لكن هل عرف المسلمون الأوائل احتفالات المولد النبوى الشريف؟ نترك الإجابة للشيخ مصطفى عبدالرازق، فى خطبة ألقاها عندما كان شيخا للجامع الأزهر، أثناء الاحتفال الرسمى بالمولد النبوى الشريف عام 1946، يومها قال الشيخ: «لم يكن من سنة العرب أن يحتفلوا بتاريخ ميلاد لأحد منهم، ولم تجر بذلك سنة المسلمين فيما سلف، ويظهر أن عادة الاحتفال بميلاد النبى عليه السلام من العادات المحدثة، اللهم إلا أن أهل مكة فيما رواه بعض المؤرخين كانوا يتبركون بزيارة الموضع الذى ولد فيه عليه السلام، فى يوم ميلاده. وما هى بالبدعة السيئة أن يجعل الناس يوما من أيام العام خاصا بتذكار محمد رسول الله، أكبر أبناء آدم بركة على الإنسانية، وأبقاهم فى صحائف التاريخ أثرا». ويستطرد الشيخ مصطفى عبدالرازق قائلا: «لم تشعر الأمة العربية بذلك اليوم العظيم الذى وضعت فيه حملها الأيم الفقيرة آمنة بنت وهب، أرملة عبدالله بن عبدالمطلب. حتى لقد خفى على العرب عام ميلاد النبى، وخفى عليهم موضع الدار التى جاء لآمنة فيها المخاض، واختلفوا فى ذلك اختلافا كثيرا. وقد يتبين من هذا أن ما ذكره بعض أرباب السير من أن إرهاصات وحوادث سماوية وأرضية وقعت فى يوم مولده الشريف فيه من الغلو ما لا يقوم عند التمحيص، ولا يحققه التاريخ. وليست سيرة النبى العظيم محمد بن عبدالله محتاجة إلى نافلة من خيال المؤرخين. إن محمد العظيم فى طفولته بين ذلى اليتم والفقر، وعظيم فى كهولته بين جلال الإسلام ومجد العرب. وهل حفظ التاريخ مجدا أكبر من مجد النبى العربى صاحب الدين الخالد والهدى الراشد؟» لكن متى بدأت احتفالات المولد النبوى بأشكالها المختلفة؟ وأين كان ذلك؟ تكاد تكون هناك درجة عالية من الإجماع بين الباحثين والمؤرخين على أن الاحتفال المنتظم بالمولد النبوى الشريف قد بدأ فى مصر، وإن ذلك كان فى زمن الخلافة الفاطمية، وقد وضع الأستاذ حسن السندوبى الذى كان أمينا لمكتبة وزارة الأوقاف بقبة الغورى كتابا مهما عن تاريخ الاحتفال بالمولد النبوى الشريف، صدرت طبعته الأولى عام 1948، وقد تتبع فيه هذا الاحتفال منذ بداياته الأولى فى مصر فى القرن العاشر الميلادى حتى الأربعينيات من القرن الماضى، أى زمن تأليف كتابه. وقد تميزت الدولة الفاطمية فى مرحلتها المصرية بإدراك عال لروح الشعب المصرى المحبة للبهجة والمرح، فحاول رجال هذه الدولة أن يجعلوا حياة المصريين احتفالات متوالية، فكانت الدولة تنظم العديد من الاحتفالات الدينية وفى مقدمتها المولد النبوى الشريف، وموالد آل البيت ورأس السنة الهجرية، إلى جانب الاحتفال الرسمى بالأعياد الدينية المسيحية، كعيد الميلاد المجيد وعيد الغطاس، فضلا عن رأس السنة المصرية المعروفة بالنيروز، وبعض الاحتفالات المصرية الأخرى وأهمها عيد وفاء النيل. لقد اهتمت المصادر التاريخية بوصف الاحتفالات الرسمية التى كانت تقيمها الدولة الفاطمية فى مصر، فحفلت مصادر العصر الفاطمى والعصور التالية له بصور من الحياة الاجتماعية فى تلك الحقبة من تاريخنا. ويصف تقى الدين المقريزى المؤرخ البارز الذى عاش فى القرن الخامس عشر الميلادى، أى بعد عصر الدولة الفاطمية بقرابة ثلاثة قرون، احتفالات المولد النبوى الشريف فى زمن الفاطميين، نقلا عن المؤرخين الذين عاصروا تلك الاحتفالات، فيقول: «فإذا كان اليوم الثانى عشر من ربيع الأول تقدم الخليفة بأن يعمل فى دار الفطرة وهى دار بجوار قصر الخليفة مخصصة للولائم والاحتفالات بأن يعمل بها عشرون قنطارا من السكر اليابس، لتصنع منها حلواء يابسة، وتعبأ فى ثلاثمائة صينية من النحاس، وتفرق تلك الصوانى على أرباب الرسوم من ذوى المراتب، وأول أرباب الرسوم قاضى القضاة ثم داعى الدعاة، ويدخل فى ذلك القراء بحضرة الخليفة، والخطباء بالجوامع بالقاهرة، والقائمون على المشاهد، ويبدأ ذلك من أول النهار إلى ظهره. فإذا صلى الخليفة الظهر، ركب قاضى القضاة ومن معه إلى الجامع الأزهر، فيجلسون مقدار قراءة الختمة الكريمة، ثم يستدعى قاضى القضاة ومن معه، فيركبون ويسيرون إلى أن يصلوا إلى بين القصرين، فيقتربون من المنظرة التى يجلس فيها الخليفة ويترجلون من فوق الدواب قبل الوصول إليها بخطوات، ويجتمعون تحت المنظرة لانتظار الخليفة، فتفتح إحدى الطاقات، فيظهر منها وجهه وعليه منديل، ثم يخرج أحد معاونى الخليفة رأسه ويده اليمنى من الطاقة قائلا: أمير المؤمنين يرد عليكم السلام، ثم يستفتح قراء الحضرة بالقراءة، ثم يخطب الخطباء، فإذا انتهت خطابة الخطباء أخرج الرجل رأسه ويده من الطاقة ورد على الجماعة السلام، فينفض الناس». ولما كان الاحتفال بالمولد النبوى قد بدأ فى مصر منذ زمن الفاطميين فقد ربط الناس دائما بين العروسة الحلاوة والعصر الفاطمى، وتتردد بين الناس أساطير حول ظهور هذا الطقس الاحتفالي وارتباطه بالمولد النبوى الشريف؛ حيث يردد البعض أن الحاكم بأمر الله الفاطمى قد فرض على الناس ضمن تشريعاته الغريبة منع احتفالات الزفاف فى جميع أيام السنة ما عدا ليلة المولد النبوى. ومن هنا كان الناس يعدون كل شىء استعدادا للاحتفال بأفراحهم فى ليلة المولد فيعقدون قران الراغبين فى الزواج، ويعدون جهاز العرائس، ثم فى الأيام القليلة السابقة على المولد يعدون الحلوى. ومن بين هذه الحلوى عرائس تصنع من السكر وتزين وتلون ابتهاجا بحفلات الزفاف التى تتم فى ليلة المولد النبوى. وبعد وفاة الحاكم بأمر الله ذهب معه قراره بمنع حفلات الزفاف واستمرت العرائس الحلاوة كطقس من طقوس المولد. والقصة لا تخلو من طرافة، إلا أنها بعيدة عن الحقيقة تماما، فعرايس الحلاوة، أو التماثيل المصنوعة من السكر عموما من الطقوس الاحتفالية المصرية الأصيلة، ولم يقتصر استخدامها فى العصر الفاطمى على المولد النبوى فقط؛ فالمصادر القديمة تحكى لنا عن صنع تماثيل السكر أشكال العرائس والطيور والحيوانات فى احتفالات وفاء النيل فى ذلك العصر. وما زالت العروسة الحلاوة طقسا احتفاليا فى عديد من المناسبات الاجتماعية فى بعض مناطق الريف المصرى. كذلك فإن العروسة ورسومها كشكل احتفالى موجودة منذ زمن المصريين القدماء، وقد استمرت فى العصرين البطلمى والرومانى، ثم فى العصر القبطى، وانتقلت بعد ذلك إلى مصر فى عصور حضارتها الإسلامية مع عديد من العادات والتقاليد التى ما زالت تحيا بيننا منذ آلاف السنين، ومن الطقوس المرتبطة بعروسة المولد فى الأحياء الشعبية فى المدن وفى قرى ريف مصر إلى الآن، قيام العريس الجديد أو من يتقدم للزواج، بتقديم عروسة حلاوة كبيرة إلى عروسة فى أول مولد نبوى يمر بعد الخطبة، وتسمى تلك العروسة «عروسة النفقة».