« إذا شق عليك أن تصير خديم أعتاب الطغاة وخططهم الجهنمية، جاسوسا مخترقا، عميلا مزدوجا، قاتلا أجيرا، فعليك بمراودة حل قد ينجيك لو أتقنته: أن تتحامق وتتمارض.. دوخ مستنطقيك بأعتى كلام الحمقى والمجانين، هدد معذبيك بسعالك وعدوى مرضك، لعل وعسى أن ييأسوا منك، فيعيدوك إلى موطنك أو قريبا منه مخدرا بأفيون، تصحو منه وأنت مراقب بدمليج إلكترونى ومستهدف برصاصة فى الرأس، تصيبك ولا تخطئ، إذا ما رويت قصتك من حولك أو رفعت فى شأنها شكاية إلى مجهول». كانت هذه وصية «نعيمة» إلى «حمودة» بطل رواية «معذبتى» للمغربى بنسالم حميش، التى كتبتها له فى بطاقة دستها فى جيبه خلسة فى السجن بعد أن انفطر قلبها من فرط العذاب الذى لحق، ورجته أن يتلف البطاقة فور قراءتها، فحفظها هو عن ظهر قلب، وراح يدين لها بنجاته حيا من غياهب معتقل مشحون بحصص التعذيب الذى ما كان يوما يظن أنه سينجو منها ليعود بعد سنوات طوال إلى سكنه، ولكن دون أن يتمكن من الاحتفاء بحريته المستعادة تلك، فظل يخشى مخالطة الناس، ينقب البحث عن حيل ووسائل الاحتراز لكيلا يضطر إلى تبرير غيبته الطويلة التى جعلت منه رجلا ذا لحية بيضاء من أثر الشيب لا بفعل العمر بقدر ما هو بفعل الهم والانكسار. ظل بطل «معذبتى» التى صدرت أخيرا عن دار الشروق يتوارى من الأعين فى الشوارع والأزقة التى كان يحن بها لوصال البشر بعد سنوات اعتقال بائسة، ولكن هاجسه فى درء تلك الأعين عن وجهه وهويته كان يفسد عليه هذا الحنين، فكانت تزعجه نظرات زبائن المقاهى والمطاعم الذين كان يثيرهم الفضول لمظهر زيه وهندامه الغريب غير المألوف لأهل هذا الزمان. الأمر الذى دفعه لهجر هذه الأماكن بعمارها وصخبها، إلى جوامع المدينة بسكينتها لاسيما قبيل صلاة العشاء، حتى التقى الشيخ «حماد المزاتى» الذى أخذ به إلى عالم أخضر فى ضيعة بعيدة ساعدته على النقاهة من سنوات العذاب تلك، وبدأ بها تدوينها بادئا بالليلة الأولى التى ألقى القبض عليه بها على يد رجال مقنعين من البوليس السري المغربى، واقتادوه إلى سيارة متسخة اللون والأرقام معصوب العينين وحقنوه بالمخدر الكفيل بسلبه الوعى، ليفيق ليجد نفسه فى رداء سجين ببذلة زرقاء مهترئة يسكن زنزانة فردية هويتها الوحيدة أنها تحمل رقم 112، وراح يخوض فى تحقيقات لا نهائية حول انتمائه إلى حزب سرى أو إلى خلية جهادية عاملة كانت أو نائمة، ومواجهته بانتمائه السابق لإحدى الفرق الصوفية. وراح حمودة يتذكر تفاصيل الاستجوابات وإهانات الحبس الآدمية فى إحدى الليالى الرمضانية التى مرت عليه فى بداية اعتقاله وكان وقتها قد انتقل إلى قبو مرعب بصحبة عدد من المعتقلين «يروم مجرمو المجتمع ومديروه تحويل الانسان الأسير إلى حيوان غير ناطق، مقلم الأظافر، فاسد الأسنان، مهترئ العضلات، سليب القوة الجسمية والمعنوية، لا استطاعة له إلا فى الطاعة والإذعان، يزفر ويزمجر إذا شاء، ويعربد ويزبد، لكن داخل فمه وفضائه الجوانى، إنما القوم هنا، وقد بلغوا حدود الصبر الأقصى وما لا يطاق، استرخصوا الموت وآثروه على حياة المذلة والهوان، فكانوا بما تبقى لهم من جهد وأنفاس يتداولون جماعيا فى هذا الشهر الكريم على تلاوة آيات قرآنية ومختارات من الأمداح النبوية والأذكار، كنت فيها أدلى بدلوى وأبلى ما قدرت البلاء الحسن، وكان الحرس أحيانا يسكتوننا عما يسمونه الهرج،ملوحين بالعصى وخراطيم المياه». لم ينس حمودة وجوه رفاق المحنة والحبس رغم أن لغة الإشارة كانت هى الأغلب على حديثهم، ومنهم «إلياس بوشامة» الذى بات ليلة بزنزانته وما أصبح، وذلك الجريح «عمر الرامى» الذى ألقى به يوما فى زنزانته بعد أن تعرض لأعتى أنواع التعذيب ببتر خصيته اليمنى لإرغامه على الاعتراف بأسماء أشخاص مطلوبين لديهم فى خلية جهادية يتهموه بالانضمام إليها، ولم ينس يوما ذلك الصوت الأجش الرعد الذى كان يصحو عليه كل يوم فى ساعة لا يدريها ويقول «الرياضة خير من النوم»، ولا ليلة تعذيبه الأفظع على يد «الغولة»، فيتذكر «تأكد شعورى حين أقعدنى حارس فى ركن قبالة نفر من الجالسين على الأرض، عندئذ تلقيت مصعوقا ما لا يحتمل: مشهد تلك الغولة التى سمعت عن قسوتها وبطشها من قبل، ورأيتها فى ملعب كرة القدم رأى العين، غولة نصف عارية أراها هذه المرة، تتصبب عرقا، منهمكة فى تعذيب رجل معلق من قدميه، وحشة عدوانية تتشدق بألفاظ بذيئة فى وجهه المعكوس المتدلى، ألفاظ السب المبرح والقذف الغليظ، تطعمها ببصقات مخاطية وتمشط جلده بآلة نحاسية حادة تنهك المعذب النازف دما». مر عليه هذا المشهد كالرصاص المشحون بالذعر وتوجعات المعذبين، وبعد أن جاء دوره تعرض لمختلف الأساليب الشاذة فى التعذيب على يد هذه الغولة وهى تستجوبه « إلى أى خلية عاملة أو نائمة تنتمى؟»، ويصيح قلبه «أعلم يقينا أن ميزان القوى ليس فى صالحى، إذ الغولة من الوزن الثقيل جدا، وأنا فى وزن الذبابة أو البعوضة، لكنى ذهنيا وضعت فى كفتى إيمانى ببراءتى، ووجوب انتفاض المظلوم لحقه، وغريزة تشبثى بأهداب الحياة الكريمة، وعززت الكفة معنويا بأمثال استنهاضية رافعة، طفقت أرددها على مسمع الجميع أثناء حركات تسخينية، من قبيل: إن البعوضة تدمى مقلة الأسد، يوجد فى النهر ما لا يوجد فى البحر، وغير ذلك». استطاع الروائى بنسالم حميش، وزير الثقافة فى الحكومة المغربية والحائز على جائزة نجيب محفوظ الأدبية هذا العام، عبر فصول «معذبتى» أن يدون بقلم السجين حمودة تفاصيل يوميات مؤلمة من السقوط والهوان، وصنوف التعذيب التى أدت به إلى نقله إلى المستشفى لاتخاذ قرار فى بتر رجله، وليلة تعذيب الغولة له بنعته له يا «بعلى»، زوجى، وقوله لها «الله.. تبارك وتعالى يمهل ولا يهمل.. عقابه للظالمين والظالمات شديد.. سيعذبك العذاب الأليم.. أكثر مما عذبتنى وعذبت الآخرين»، وردها هى عليه «بل أنت حمودة من تعذبنى بصمودك ونفورك، تحرمنى من حقائقك وأسرارك، لا ترينى غير عنادك وسوادك، أنت من سيعذبك الله». أنعم الله على هذا السجين بعد أكثر من خمس سنين من الحبس بتعاطف طبيبة، قصدت سريره فى عنبر مستوصف وأقنعت القائمين عليها أنه مسلول يبصق الدم ونصحت بإرجاعه إلى موطنه حتى لا يكون وبالا على السكان، ويروى «شعرت للتو بفرح ولو مشوب بالحذر، ساعة الفرج قريب تدق إذا لم يطلب الرجل الأجنبى إخضاعى لفحوص طبية مراقبة، ولم يدر بخلدى وهذا ما حدث أن ينتفض مريض بجوارى واقفا على سريره ويصيح ملء حلقومه: يا ناس! هذا الرجل مسلول، أرسلوه بيننا ليصيبنا بدائه المعدى، إما يطردونه فى الحال، وإما نخلى جميعا هذا المكان» وكانت هذه الصرخة مفتاح خروجه من هذا العالم إلى أول جامع شكر الله به على سلامته ليعود بعدها إلى مدينة مستقرة حيث سهل «أنكاد» القريب من «وجدة»، وهى بلدة فلاحية رعوية لعلها تلهيه عن سنواته الجمرية وركام جراحه، وبها التقى «زينب» التى تزوجهها وقرر فى صحبتها أن يعيد تعلم أبجديات الحياة، ويعلمها هو القراءة والكتابة، وقضى وقته يحرث الأرض ويكتب مخطوطة شهادته عن سنوات عذابه التى لم يجد لها ناشرا بعد أن تذرع الجميع بأنه سيدفع مقابلا ماديا كبيرا لنشرها، متذرعين بكساد سوق الكتاب بالإضافة إلى شطب كثير من فقراتها وتعابيرها، لكثرة كلامها اللاذع فى الساسة والسياسة وهو ما رفضه حمودة، فلم يقبل أى حذف لخميرة معاناته وسجل عذابه. ويسجل فى النهاية «اليأس ليس جبلتى ولا مهنتى، وقد يأتينى الأمل فى شأن مخطوطتى كما فى غيره من حيث لا أحتسب، أو من تحركات لا بد أجريها فى العاصمة الرباط ولدى جمعيات حقوقية منصتة وازنة، فهل كنت أنجو من محنتى لولا صبرى الأيوبى وتمارضى وتحامقى، كما نصحت نعيمة؟!».