كيف يبنى الفقراء بيوتهم فى مجتمع لا يتعدى متوسط دخل الفرد فيه أكثر من 400 جنيه (أى ما يعادل 73 دولارا)؟ قد يقضى المواطن عمره كله حتى يبنى «البيت الملك»، وقد لا يتحقق له هذا الأمل مدى الحياة، فأربعة جدران وسقف، تجسد بالنسبة للمصرى معنى «الستر» على حد تعبير الدكتور ميلاد حنا، خبير الإسكان والمجتمعات العمرانية. وتؤكد دراسات المركز القومى لبحوث الإسكان والبناء هذا المفهوم نفسه، إذ تشير الأرقام إلى أنه بينما يمثل نظام السكن بالتملك فى معظم دول العالم 55 فى المائة مقابل 45 فى المائة للإيجار، يصل نسبة الملاك فى مصر إلى 80 فى المائة. ولتحقيق الرغبة فى التملك يلجأ الفقراء فى بعض الأحيان لوسائل تحايل عدة، فياسر السائق الثلاثينى يروى أن مشروع زواجه ظل معلقا لمدة ست سنوات حتى يستكمل بناء بيته. «بدأت بإقامة الجدران التى كلفتنى قرابة الأربعة آلاف جنيه، تدبرت أمرى بفضل الجمعيات الشهرية. وعن طريق هذه الجمعيات نفسها قمت بتشييد السقف الذى وصل ثمنه إلى عشرة آلاف جنيه، ثم أجريت بعض التشطيبات البسيطة كالمحارة والتبليط، أما المرافق فأدخلتها تدريجيا بعد انتهاء البناء». يقول الدكتور أبوزيد راجح، رئيس مجلس إدارة مركز بحوث الإسكان، إذا كانت منظومة البناء تتكون من أربعة أضلاع: الممول، المالك، المهندس، المقاول، فإن الفقراء يجدون صيغة أبسط لهذه المنظومة من أجل خفض التكاليف. فكلما زادت عناصر العملية الإنتاجية، زادت التكلفة، لذا فعادة ما يكون المالك هو الممول الذى يحصل على رأس مال صغير من العمل فى الخارج أو فى المدينة لينجز «مشروع بيته» على مراحل تبدأ ببناء الغرف ثم يعلو أفقيا. فهو لا يستعين بالمهندس أو المقاول بل بالحرفيين الموجودين فى المنطقة الذين يستطيع دفع أجورهم اليومية، ويصل بهذه الطريقة لتوفير قرابة 30 فى المائة من تكاليف البناء، على حد قول الدكتور أبوزيد. ينص العهد الدولى لحقوق الإنسان على 14 معيارا للمسكن الملائم، أهمها أن يكون السكن مزودا بالخدمات الأساسية كالماء والكهرباء والصرف الصحى، وأن ينعم بالخصوصية وأمن الحيازة، إضافة إلى مراعاة الجانب الثقافى والاحتياجات المعيشية. ووفقا لدراسة متخصصة أجرتها جامعة الأزهر يجب ألا تقل مساحة البيت المخصص لفردين عن 32 مترا مربعا، إلى جانب دورة للمياه تزيد على 12 مترا لكل شخص إضافى. لكن موارد البسطاء المحدودة تضطرهم للتضحية بمعظم هذه المعايير، خاصة تلك التى تتعلق بالمساحة أو الخصوصية. العديد من بيوت الفقراء تنبت بشكل شيطانى، فالكثيرون لا يمتلكون أوراقا تثبت ملكيتهم مثل اعتماد، التى تعتبر من أوائل سكان الكيلو أربعة ونصف (على تخوم القاهرة، شرقا). ففى أعقاب زلزال 1992 كانت حيازة الأراضى فى هذه المنطقة بوضع اليد. تقول اعتماد: «كانت هناك مجموعة من البلطجية يديرون بيع الأراضى لذا قمت بشراء الأرض منهم، نحو 600 متر. كان سعر المتر آنذاك جنيها واحدا، وكان شرط التملك هو البقاء فى المكان نفسه، فالكثير من الأهالى فقدوا أراضيهم لأنهم تغيبوا وقام البلطجية ببيعها مرة أخرى لشخص آخر، فلغة الذراع والعافية هى السائدة فى البيع والشراء». الحصول على تراخيص البناء لم يكن صعب المنال، فهؤلاء «البلطجية» الذين تحدثت عنهم اعتماد قادرون على كل شىء. ويوضح محمد الحلو، باحث قانونى فى المركز المصرى لحق السكن: «الرشوة تفتح كل الأبواب»، مؤكدا أن هناك تعريفة محددة لهذه الرشاوى «ففى بعض الأحياء يأخذ المهندس خمسة آلاف جنيه عن كل دور». وعندما تبدأ عملة البنيان يلجأ البسطاء لمواد اقتصادية من شأنها تقليل التكاليف، كما يقول حسنى، حارس عقار الذى عمل لأكثر من 20 عاما بالحضر حتى يبنى بيته فى إحدى قرى محافظة بنى سويف: «استغرق بناء البيت عشرة سنوات وحتى الآن مازلت أستكمله». حسنى يبدو خبيرا بأسعار مواد البناء والتغيرات التى طرأت عليها، بل هو ملم أيضا بحيل البناء والعمال. «بنيت بيتى من الطوب الأبيض لأن حجمه كبير وكلفته أقل من الطوب الأحمر. فقد تكلفت حوائط الحجرة الواحدة نحو ألف طوبة بسعر 750 جنيها، فى حين إذ شيدتها بالطوب الأحمر قد يحتاج الأمر لستة آلاف طوبة يصل سعرها إلى نحو ألفى جنيه». و لما كان السقف معضلة بالنسبة للكثيرين، خاصة أن نفقات تشييده على حد تعبير ياسر أعلى من تكلفة بناء جدران دور ثان، فإن البعض يتحايل بطرق عدة. فى منطقة منشأة ناصر، أقام خالد، سروجى سيارات، سقف منزله على الطريقة «السويسية» التى تزاوج بين الخشب والبوص، لأنه تكلفة السقف العادى قد تصل لأكثر من 20 ألف جنيه. «تحتاج الحجرة إلى 18 عرق خشب، تكلفة الواحد 110 جنيهات، ويكسى بالمشمع حتى يحول دون هطول المطر علينا». ورغم أن تكلفة السقف تبدو عالية نسبيا إلا أنه يفضل أن يكون السقف متينا لأنه ينوى تعلية البيت وتزويج أولاده الأربعة معه. ويعلق محمد الحلو الباحث بمركز الحق فى السكن أن طبيعة السقف تختلف من منطقة فقيرة لأخرى حسب النشاط الاقتصادي للسكان، فالمناطق التى تعمل فى جمع القمامة مثلا قد تستخدم المخلفات مثل الصفيح، بينما فى منطقة مثل الفواخير بمصر القديمة قد تستخدم بواقى الآنية الفخارية. يختلف شكل البيت ومكانه وديكوره، ولكن يبقى الفقر أبو الاختراع.