مع كل 40 ثانية تمر يكون هناك طفل فى أحد أنحاء العالم قد تغيب عن أسرته، وفى مصر صارت آليات البحث عن المفقودين أكثر تنوعا، ليظهر إلى جانب الطرق التقليدية محاولات لابتكار أساليب أخرى فاعلة. تقطع أم محمد المشوار من منزلها فى الزاوية الحمرا إلى المقطم فى لهفة، الدقائق التى تمر عليها فى زحام الطريق تتحول لساعات فى نفسها المتشوقة للوصول إلى العنوان الذى تبتغيه، لكنها تعود منه مع زوجها سريعا فى خيبة أمل. السيدة وزوجها أنهيا زيارة كان ممكنا أن يعدا منها مع ابنتهما أسماء المتغيبة منذ شهر مارس الماضى، تقول الأم: «من خلال أحد برامج الفضائيات عرفت أن أحدهم وجد طفلة مفقودة بنفس مواصفات ابنتى، وأنه أخذها ليربيها مع أولاده، فأخذت عنوان هذا الشخص من البرنامج وتوجهت إليه، لكننى عرفت أن آخرين سبقونى إليه وتعرفوا على الفتاة وأخذوها». أسماء هى واحدة من 65 حالة اختفاء سجلتها وزارة الداخلية خلال الشهور الثلاثة الأولى من عام 2009، (بمعدل طفل يتوه كل 40 ثانية على مستوى العالم). تحاول أسر هؤلاء التوصل إليهم من خلال آليات مختلفة، أبسطها طباعة صورة الطفل وتوزيعها على المارة أو لصقها على حوائط الشوارع والمترو ومحطات الأتوبيس، وقد جرب والدا أسماء هذه الطريقة إضافة إلى نشر إعلانات بالصحف وأبلغا الشرطة. وبعد مرور ما يقرب من عام على تغيبها تقول الأم وقد اجهشت بالبكاء «لو ماتت كان أهون عليا.. كنت هابقى عارفة طريقها»، فى تلميح إلى إحدى النهايات المتوقعة لقصة اختفاء الابنة التى تعانى إعاقة عقلية وعجزا عن الكلام. والنهاية التى خطرت على بال أم أسماء تجد محلا من الإعراب مع تزايد أخبار القبض على عصابات تجارة الأعضاء، فوفقا لتقارير أمريكية فإن مصر تحتل المرتبة الرابعة عالميا فى الإتجار بالبشر، فى الوقت الذى لا تنكر فيه وزارة الداخلية تلقيها بلاغات يومية باختفاء مواطنين، لكنها تستبعد ربط هذه البلاغات بجريمة الإتجار. وبناء على البلاغ الذى تقدم به والدى أسماء، استدعتهما مديرية الأمن للتعرف على صور من تم العثور عليهم مؤخرا، لكن لم تكن أسماء من بينهم. ورغم طول فترة التغيب، ما تزال الأم تسعى إلى استخدام أى طريقة للعثور على ابنتها، خاصة نشر الصورة فى إحدى الفضائيات. وأم أسماء برغم دموعها وهزالها بعد تغيب ابنتها أكثر تماسكا من والدة غادة الطالبة الجامعية التى لم تعد إلى منزلها منزلها منذ منتصف ديسمبر 2009، إذ تأثرت صحة الأم ولم تعد تحتمل الحديث فى الموضوع الذى تنخرط فى البكاء إذا ذكر أمامها، لتصبح تحركات الأسرة للعثور على غادة على عاتق الأب الأستاذ كامل مصطفى الذى كان فى انتظار ابنته الكبرى وقت أن تحدثت إليه. «أنا أوصل بناتى للجامعة وأنتظر عودتهم بنفسى، ابنتى الآن فى الكورس انتظرها حتى خروجها وأوصلها للبيت»، وهو السلوك الذى بات الأب يحرص عليه بعد تجربة تغيب ابنته. وطرق الأستاذ كامل كثيرا من الأبواب فى سبيل العثور على ابنته، ابتداء من زميلاتها، اللاتى يرافقنها فى العودة للمنزل حتى نشر الصور فى الجرائد كلها وملصقات الشوارع والبلاغ فى مديرية الأمن، لكن عدم العثور عليها جعله يعتبر أنه يبحث عن «إبرة سقطت فى المحيط»! التضامن الإلكترونى لم يهون على الأستاذ كامل إلا إحساسه بقدر كبير من التضامن من المحيطين به، كما يصف «كل الجيران والأقارب كانوا بجانبنا، وأشخاص لم أرهم منذ سنوات وجدتهم يتصلون بى ويعرضون المساعدة، هذا كان ضروريا لبناتى وزوجتى، التى تكاد تكون تدمرت بعد اختفاء البنت». وفى مصر التى وصل عدد مستخدمى الإنترنت بها إلى 15 مليون شخص وفقا لتقرير حديث للشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان يصبح منطقيا ظهور هذا الحس التضامنى مع أسر المتغيبين عن منازلهم من خلال الفيس بوك، الذى خرجت منه كثير من دعوات التحرك الاجتماعى والسياسى، وهو ما دفع المذيع التليفزيونى محمد حراز إلى إنشاء جروب «أطفال مفقودين خرج ولم يعد» الذى يرفع دعوة: «ياريت كلنا نحاول نساعدهم ونصور بالموبايل أى صوره أو أى إعلان على أى جدار فيه إعلان عن مفقود ونحطه على الجروب». ويشرح حراز الفكرة قائلا: «من خلال الجروب نقدم دعوة مفتوحة للجميع بتصوير الإعلانات عن المفقودين الذين يرونها فى الشوارع، يمكنهم حتى تصويرها باستخدام الموبايل وتحميل الصور على الفيس بوك بحيث يراها المزيد من الجمهور». حراز نفسه يفعل ذلك، ويوضح: «أنشر على هذا الجروب وكل الجروبات التى أديرها أى صورة تصلنى لطفل مفقود من خلال عملى أو على بريدى الإلكترونى. وفى رأى مؤسس الجروب أن ظهور الإعلان عن التائه على شبكة الإنترنت أفضل وأكثر فعالية فى العثور عليه. ثم يضيف: «لاحظى أن الصورة على شاشة الحاسوب أفضل من إعلان الحائط المنشور فى الشارع، لكونها ملونة وأكثر وضوحا وقابلة للتكبير فضلا عن كونها قابلة للتداول بمعنى أنه يمكننى إرسالها لأصدقائى على سبيل المثال، وربما مكملة لإعلانات الجرائد لكونها موجودة على الإنترنت دائما، بينما فى الصحف تختفى بعد يوم صدور الجريدة». ومن خلال موقع فيس بوك وحده يستطيع حراز التواصل مع نحو 18 ألف مشترك فى الجروبات التى يديرها، على حد قوله. وخلال العام الماضى، دشن الأستاذ مصطفى المصرى حملة على الإنترنت للبحث عن طفلته «ملك» استخدم فيها فيس بوك وموقع يوتيوب للفيديو والبريد الإلكترونى وتمرير الرسائل للمنتديات، ونجح الرجل بالفعل فى العثور على ابنته لكن من خلال شركة تحريات خاصة فى الولاياتالمتحدة، التى اكتشف أن والدة الطفلة نقلتها إلى هناك. لا يزال حرّاز يطمح فى نجاح فيس بوك فى الجمع بين أبناء وأسرهم قياسا على نجاح هذا الموقع فى حملات أخرى سياسية واجتماعية، ولا يستبعد أن يكون جروب «خرج ولم يعد» قد حقق ذلك بالفعل، وإن كان لم يتلق هو بعد أى رسائل تفيد بذلك، لكنه يقول «إنها شبكة عنكبوتية! قد يكون أحد هؤلاء الأطفال قد وصل إلى أسرته بفضل أحد زوار الجروب وشكره هو». فى المقابل، حاول البعض الاستفادة من ساحة الإنترنت المزدحمة بالمستخدمين فى العثور على أسرة شخص مفقود، مثل شيماء (تم تغيير الاسم بناء على طلب المصدر)، التى قابلت خلال عملها بأحد دور الأيتام طفلا تسلمته الدار من قسم الشرطة، يعرف اسم والديه وسعت إلى مساعدته فى العودة إلى أهله، لكنها لم تفلح على أرض الواقع، فأنشأت جروبا تحكى فيه قصة الطفل ونشرت صورته، لعل أسرته تتعرف عليه. وغيرها فتاة تشترك فى جروبات فيس بوك وبعض المنتديات وتروى قصة عثور إحدى الأسر عليها محددة المكان والتوقيت، على أمل أن تتوصل إلى أسرتها الحقيقية التى ضيعتها! فتش عن الحذاء وكروت الشحن! فى العصر الذى تحول فيه العالم إلى مساحة صغيرة بحجم شاشة الحاسوب، لم يكن الانترنت هو الوسيلة الوحيدة للعثور على شخص مفقود، وأصبح واجب التكنولوجيا هوالتوصل إلى حل أكثر سرعة يمكن الأسر من الوصول إلى المفقودين، وهو واجب تحقق فى الولاياتالمتحدة التى ظهر فيها قبل سنوات قليلة أحذية للأطفال مزودة بتقنية تجعل من السهل تحديد أماكنهم عن طريق القمر الصناعى! وهى منتج يلقى رواج لاعتدال ثمنه وفعاليته فى العثور بالفعل على أطفال مفقودين أو تعرضوا للاختطاف. وفى الولاياتالمتحدة نفسها، التى سجلت فى عام واحد ما يفوق 700 ألف حالة تغيب لأطفال وفقا لبيانات مكتب التحقيقات الفيدرالى يستعين المواطنون بالجهاز الجديد لأخذ صورة ثلاثية الأبعاد لوجه الطفل وتخزينها فى قاعدة المعلومات، وعند فقدان أى طفل يتم نقل هذه الصور عن طريق الإنترنت لرجال الشرطة فى جميع المناطق، وبعد ثوانٍ يستطيع رجال الأمن والصحافة المرئية مشاهدة صورة الطفل المفقود والحصول على المعلومات الكاملة عنه. ورغم الفجوة الرقمية لم تغب عن مصر تماما فكرة استخدام التكنولوجيا للبحث عن المفقودين، فقبل أقل من عام خرجت للنور فكرة الشاب محمود خليل بتسجيل بيانات الشخص على ذاكرة رقمية، فبدلا من أن يبحث هذا الذى يجد شخصا مفقودا عن عنوانه أو طريقة الاتصال بأسرته، يحمل المفقود بياناته.. وهى الفكرة، التى تخدم على وجه الخصوص الأطفال وذوى الاحتياجات الخاصة والمصابين بمرض الزهايمر. ووفقا لخطة محمود فإن سعر هذه الذاكرة الرقمية ستكون 5 جنيهات أى أقل عشر مرات تقريبا من سعرها الحالى. بينما وجد محمود بصعوبة رعاية لمشروعه، لم يفلح طارق الضوى فى الوصول لشركات المحمول لتقديم اقتراح لديه يساعد فى العثور على المفقودين خاصة الأطفال. وفكرة الشاب هى وضع صور صورالأطفال المفقودين على كروت شحن الموبايل، وهو ما يشرحه قائلا: «جاءتنى الفكرة من واقع الانتشار الكبير للخطوط المحمولة وبالتبعية تداول كروت الشحن. فى الخارج يضعون صور الأطفال المفقودين على لبن الرضاعة الصناعى، هنا فى مصر كروت الموبايل هى الأكثر تداولا». وفى الوقت الذى حاول فيه طارق الاتصال بشركات المحمول، كانت وزارة الداخلية قد استخدمت التليفون الثابت لتلقى بلاغات اختفاء المواطنين، وخصصت لذلك خطا ساخنا مخصصا لتلقى هذا النوع من البلاغات خاصة عن المتغيبين من الأطفال والمسنين وذوى الاحتياجات الخاصة، وذلك على تليفون النجدة رقم (122). جهود مدنية حاول الشىء نفسه المجلس القومى للأمومة والطفولة، فاهتم بإنشاء خط ساخن لنجدة الطفل رقم (16000)، وذلك لاستقبال البلاغات عن الأطفال المفقودين ومتابعة العثور عليهم، لكن الاستاذ محمد نظمى نائب مدير خط نجدة الطفل يفضل استخدام تعبير «تائه» عن مفقود، على اعتبار أن الأخير مرتبط بالاختفاء الأبدى، بينما «التائه» شخص متغيب وسيعود يوما ما. ومنذ إطلاق هذا الخط فى يونيو عام 2005 ساهم المجلس فى الإبلاغ عن عدد من الأطفال المفقودين، كما يقول الأستاذ نظمى: «الخط يعمل 24 ساعة طوال الاسبوع. فور تلقينا لبلاغ باختفاء طفل نأخذ بياناته الشكلية والظروف، التى غاب فيها عن أسرته ونوصلها إلى شبكة الجمعيات الأهلية المتعاونة معنا فى أنحاء الجمهورية، مع التركيز على المنطقة التى اختفى فيها، وبالطبع نبلغ القسم التابع للمنطقة، التى اختفى فيها الطفل»، الجدير بالذكر أن ممثلا لوزارة الداخلية يعمل مع خط نجدة الطفل. ورغم نجاح خط نجدة الطفل فى إعادة بعض الأطفال إلى أسرهم لا ينكر نائب مدير مشروع الخط الساخن أن الإقبال على الإبلاغ عن حالات إختفاء الأطفال ليس كبيرا مقارنة بما يستقبله المجلس من استفسارات نفسية وتربوية عن الأطفال. ولم يتردد المجلس فى استخدام الطريقة التقليدية للبحث عن المفقودين بسؤال المارة عنهم، فمن خلال الجمعيات الأهلية المتعاونة معه، ينزل ممثلو المجلس إلى الشارع أحيانا للسؤال عن الطفل الذى يتلقى الخط الساخن بلاغا عن اختفائه. فى الوقت نفسه، يرحب المجلس القومى للأمومة والطفولة باستقبال الاقتراحات التى يمكن من خلالها مساعدة الأطفال المفقودين على العودة لأسرهم، ويمكن لأى صاحب فكرة الاتصال برقم 16000 لتقديم اقتراحاته. ورغم تخصيص مصر هيئة وطنية للأمومة والطفولة منذ عام أكثر من 20 عاما، وعضوية قرينة الرئيس الفخرية للمركز الدولى للأطفال المفقودين والمستغلين، لم تكن قضية إعادة المتغيبين خاصة الأطفال إلى ذويهم على أولوية كثير من منظمات المجتمع المدنى، وإن أبدت تعاونا على مستوى المحليات فى البحث عن المفقودين. فى الوقت الذى تنتشر فيه جمعيات المساعدة فى العثورعلى المفقودين فى أنحاء العالم، وأكبرها جمعية «ريونيت» البريطانية، التى امتدت أنشطتها إلى مصر كذلك، للبحث عن الأطفال خصوصا التائهين من أسرهم. هنا وفى المنطقة العربية بدأت بعض الجمعيات إدراج قضية الأطفال التائهين فى برامجها، خاصة جمعيتى «طفولة فى خطر» و«ماتقيش ولدى» المغربيتين. وفى السعودية، خصصت المملكة مراكز ارشاد للأطفال التائهين من ذويهم وتتبع وزارة الحج، حيث قد يصل عدد الأطفال المفقودين فى موسم الحج الواحد إلى 120طفلا أو أكثر، وتنجح هذه المراكز فى إعادة غالبية المفقودين، خاصة بعد اعتماده طرقا تقنية مثل تخصيص شاشات إلكترونية كبيرة فى منى عرفات ومزدلفة تعرض صور هؤلاء المفقودين وأماكن وجودهم. بينما يخطو المجتمع المدنى ببطء تجاه المساعدة فى العثور على المتغيبين، ويحاول المواطنون إظهار تضامنهم عبر الشبكات الاجتماعية على الإنترنت، تظل الطرق التقليدية للبحث عن المفقودين أول الحلول، التى تخطر على بال الأسر. فاستخدام الميكروفون للبحث عن المفقودين أمر كثير الحدوث، ابتداء من محطات المترو التى تنادى على أسرة التائه وغالبا ما يكون طفلا فى الإذاعة الداخلية، وفى الحدائق العامة التى يتكرر فيها تغيب الأطفال عن أسرهم. وفى كثير من القرى يكون ميكروفون الجامع هو الطريقة الأسرع والأكثر فعالية فى العثور على المفقود. وانتشار الميكروفون قضى على مهنة «العدوى» أو المناداة على الأطفال التائهين، التى كان يمتهنها أى رجل جهورى الصوت قادر على الحركة، فيتنتقل بين الشوارع مرددا مواصفات الشخص المتغيب وبيانات أسرته، ويضرب عدة ضربات على طبلة صغيرة فى كل مرة يكرر فيها الإعلان، جذبا لانتباه المارة، ليظل تعبير «عيل تايه يا ولاد الحلال» مسموعا أو مقروءا على الحوائط أو الجرائد أو شاشات الحواسيب وإن اختلفت كلماتها!