كان د. فخرى الفيومى ينظر لمن يحدثه نظرة شك عميق، كمن يقلب ببصره بضاعة مريبة، أحيانا نادرة كان يجازف سائلا بصوته المهذب الخفيض: حضرتك نظام جديد؟ فيجيبه الآخر بحيرة: نظام جديد؟! ماذا تعنى؟ فينكس د. فخرى عينيه على نظرة باسمة مريرة كمن يقول «دعك من هذا اللؤم» ويغمغم: النظام الحالى؟ فى أغلب الحالات كان يتلقى الرد ذاته مصحوبا بدهشة: ماذا تقصد؟ لا أفهم؟ فيزووم د. فخرى ويصمت طاويا نفسه على حيرته، ويغير موضوع الحديث. وقد بدأت حكاية الشك هذه عندما فوجئ د. فخرى باستدعائه إلى المباحث العامة منذ نصف السنة، كان ذلك عقب اجتماع حاشد فى الجامعة جرفته الحماسة خلاله فقال كلمتين تجاوز بهما سقف المسموح إلى سماء الممنوع. وندم بعد ذلك أشد الندم، وقالت له زوجته: يا فخرى أنت أستاذ كبير عندك كتبك وأبحاثك مالك ومال كلام الشباب؟! فأجابها: عندك حق. وفى اليوم المحدد وصل إلى مبنى الداخلية فى الموعد المعين له، واستقبله ضابط شاب لبق قاده بترحاب إلى حجرة ضيقة ثم قال له بنبرة آسفة: يا دكتور نحن مضطرون إلى اعتقالك! تغيرت ملامح د. فخرى على الفور، فالاعتقال آخر شىء خطر له. كان أقصى ما توقعه أن يطرق معه عميد الجامعة موضوعا عاما ويدس فى ثنايا حديثه عبارة لوم وتحذير، أما الاعتقال؟! مد ساقيه وجال بعينيه فى جو الحجرة وهو يشعر بهبوط. وحدث نفسه «أيعقل أن تهدم كلمتان عابرتان حياة كاملة؟». فكر فى زوجته وولديه كمن يودعهم، وفى حجرة مكتبه وأبحاثه، وصعبت عليه نفسه، وحاول أن يتذكر من الذى جرجره إلى ذلك الاجتماع المشئوم. اعتدل الضابط الشاب ببسمة خفيفة كمن يصحح خطأ: اطمئن يا دكتور، لا داعى للقلق. ودبت الدماء فى أوصال د. فخرى كمن ألقى إليه بطوق نجاة وجمع ساقيه الممدودتين واستجمع أمله: كيف؟ لأنك ستواصل حياتك كما اعتدتها. وأضاءت وجه الضابط بسمة من يقدم عرضا سحريا ويثق بحكم الخبرة أنه سيلقى الإعجاب: أنت تتجه إلى الجامعة يوميا فى التاسعة صباحا؟ نعم. بالضبط. تعود إلى البيت تقريبا فى الثانية ظهرا؟ تماما. عصر كل ثلاثاء تلتقى بأصدقائك القدامى فى مقهى «سهر الليالى؟». مضبوط يا أفندم. المعلومات كلها سليمة. ضحك الضابط بسعادة. ولن يتبدل شىء من كل هذا. ستواصل حياتك كما كانت! تجمد وجه د. فخرى عاجزا عن الفهم وطلع صوته كأنما من جب عميق: أواصل حياتى؟ و.. و..؟ نعم. كل ما فى الأمر أن لدينا الآن نظاما جديدا. جديدا؟ أى نظام؟ ألا تسمع عن سجون فى الخارج تسمح لنزلائها بمغادرة السجن وزيارة أهاليهم ليوم أو اثنين ثم العودة بعد ذلك؟ أسمع. هى التجربة ذاتها. إذا كانت الثقة فى المعتقلين أمرا ممكنا بحيث نسمح لهم بقضاء يوم مع عائلاتهم، فما الذى يمنع أن نسمح لهم، ليس بيوم لكن بعدة أيام؟ بل وبقضاء فترة الاعتقال كلها فى الخارج؟! قطب الدكتور فخرى ما بين حاجبيه وتقلقل على الكرسى وسأل بريق جاف: وكيف يكون اعتقالى إذن؟ أقصد من الناحية الإجرائية؟ يكفى أننا قمنا بإبلاغك. العملية كلها ثقة. طرف د. فخرى بعينه اليمنى ثم بحلق فى وجه الضابط الشاب الذى نهض واقفا وابتسم بكياسة وهو يهز يد د. فخرى مصافحا: الآن نحن نعتمد على الضمير. وأشار إلى باب الحجرة: شرفت ونورت. تفضل. من هنا. * * * غادر د. فخرى مبنى الداخلية، وسار بخطى هادئة دون أن يلتفت خلفه، تمنى لو بلعته الأرض كما تبتلع الصحراء قطرة ماء فيختفى بعيدا عن المبنى. كان بحاجة إلى المشى طويلا وحده ليعيد ترتيب رأسه المشوش، فسار حتى ميدان التحرير وفى الطريق برقت أمامه الكلمتان اللتان أفلتتا منه فى الاجتماع. ألا يحق له أن يقول شيئا للمصلحة العامة؟ قل، لكن لا تتسبب فى تجويع أولادك فليس ثمة مبادئ بعيدا عن بشر بعينهم. والحقيقة؟ فرصتك لنشر الحقيقة بالعلم والتنوير أكبر طالما قدرت نعمة الحرية لكن ما جدواك وأنت رهين زنزانة؟ مع ذلك فإننى معتقل الآن؟ نعم لكنك حر أيضا. ساقته قدماه حتى شارع رمسيس فتوقف فى الميدان يرقب زحمة السيارات والبشر حائرا أيفرح بوضعه الحالى أم يحزن؟ صباح اليوم التالى راقب د. فخرى زوجته وولديه ساعة الإفطار وهم يتناولون الطعام، فلم يتلمس فى نظراتهم أو حركاتهم أية إشارة إلى اعتقاله، كانوا يحشون أفواههم بالبيض المسلوق والجبن دون أن يعيروا أى اهتمام لشىء آخر. فى العمل أيضا لم يتوقف أحد عند الموضوع ولو بنظرة أو سؤال عابر. وأثارت تلك اللامبالاة دهشته فى البداية، ثم تذكر أن اعتقاله حسب النظام الجديد يجعل من الصعب تمييزه عن غيره، فصار يتردد على محاضراته بانتظام ويقول لنفسه وهو فى طريقه إلى العمل «ينبغى أن أعيش على أساس أن شيئا لم يحدث مع مراعاة أن شيئا قد حدث». وخلال عدة شهور اعتاد د. فخرى على النظام الجديد، لكن حيرته كانت تشتد فى الشارع وفى الباصات أو داخل محلات البقالة وهو يدقق النظر فى وجوه الناس، فلا يجد ما يستدل به على أن الشخص «معتقل نظام جديد» أم لا. فكف عن التحديق فى ملامح الناس وأخذ ينصت إلى ما يقولونه، فوجد معظمهم يقولون الشىء وضده، ويؤيدون موقفا وعكسه، يدعمون مواقع خصومهم بحرارة، ويرحبون بمقترحات أصدقائهم بفتور، وخلال ذلك كان عقله يثب من ناحية إلى أخرى فى تحديد وضعهم: معتقلون نظام جديد؟ أحرار؟ معتقلون؟ أحرار؟! إلى أن تعب تماما فتوقف عن محاولة تمييز هؤلاء من أولئك، واكتفى بالحذر فى أحاديثه وشاعت فى كلامه رصانة تضع القضايا كلها على قدم المساواة، وقل كلامه فى المقهى مع أصدقائه وصار يقضى أغلب وقته معهم صامتا ينفخ دخان النرجيلة مرسلا بصره إلى المارة. لكن الحيرة كانت تسكن أعماقه، مثل سمكة قرش مختفية، تثب فى لحظة وتنقلب إلى نظرة شك مسددة نحو من يتحدث إليه، فيجازف د. فخرى سائلا بصوت خفيض: حضرتك نظام جديد؟ فيجيبه الآخر بحيرة: نظام جديد؟! ماذا تعنى؟ فينكس د. فخرى عينيه على بسمة مريرة كمن يقول «دعك من هذا اللؤم». النظام الحالى؟ ولا يتلقى ردا شافيا. لكن تلك الحال لم تدم طويلا، فبعد نصف العام تقريبا تلقى د. فخرى استدعاء جديدا فاتجه إلى مبنى الداخلية، وسار فى ذات الردهة الطويلة الكئيبة إلى الحجرة الموحشة العارية الجدران. هناك نهض الضابط الشاب وصافحه بترحاب شديد قائلا: تفضل بالجلوس يا دكتور. لن أطيل عليك. أردت فقط أن أزف إليك نبأ سارا.. خير إن شاء الله؟ تقرر إطلاق سراحك! سراح من؟! سراحك أنت. أنا؟! نعم. صدر بالأمس قرار بالإفراج عنك مع خمسة آخرين. جلس فخرى حائرا. إذن.. أنا حر؟ نعم. وأرجو بالطبع أن تقدر أن ما حدث كان إجراء للصالح العام. الآن واصل حياتك كما هي! أنت تتجه إلى الجامعة يوميا فى التاسعة صباحا؟ نعم. بالضبط. تعود إلى البيت فى الثانية؟ تماما. تلتقى بأصدقائك القدامى فى مقهى «سهر الليالى» عصر كل ثلاثاء؟ مضبوط يا أفندم. ضحك الضابط: أكرر التهنئة. وأشار بأدب إلى باب الحجرة: واعلم أننا نعتمد على الضمير!