أعلن تقرير الوكالة الدولية للطاقة الذرية الأخير فى 19فبراير الماضى عن تطورات نوعية مهمة فى مسارى البرنامج النووى الإيرانى، سواء بمسار تخصيب اليورانيوم بالإعلان عن حيازة إيران لأكثر من طن من اليورانيوم منخفض التخصيب الذى سيوفر فى حالة تحويله إلى الدرجة عالية التخصيب ما يقرب من 25 كجم كافية لإنتاج قنبلة نووية، أو فى مسار بناء مفاعل أبحاث الماء الثقيل فى موقع آراك والذى يقدر إنتاجه السنوى من البلوتونيوم بحوالى 9 كجم تكفى لإنتاج قنبلة نووية واحدة كل عام عند بدء تشغيله المنتظر العام 2015، والذى اكتمل تركيب قبته العلوية بما يعنى إعاقة المراقبة الفضائية لما كان يجرى بالموقع. ردود الأفعال على هذا التقرير جاءت كاشفة عن أن الولاياتالمتحدة لا تبدو فى عجلة من أمرها بشأن معدلات التقدم النووى الإيرانى ولديها ثقة بوجود نافذة وقت متاحة لجهود دبلوماسية وحوار أمريكى إيرانى مباشر، وهو ما أشار إليه وزير الدفاع الأمريكى بأن «إيران ليست قريبة من مخزون مواد انشطارية كافية لإنتاج سلاح نووى وهناك بعض الوقت لا يزال أمامها» وكذلك ما طرحه دنيس بلير رئيس الاستخبارات القومية فى شهادته الأحدث أمام لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ بأن «إيران ليس لديها النية حاليا لتحويل اليورانيوم منخفض التخصيب الذى تمتلكه ليصبح قابلا للاستخدام فى أسلحة نووية»، وبأن « إيران أوقفت مشروع تصنيع رأس نووى فى العام 2003 ولم تستأنفه حتى الآن». المسألة النووية الإيرانية إذا من المنظور الأمريكى وتقديمه العمل الدبلوماسى على الحسم العسكرى فى هذه المرحلة، تستحق التدبر ليس لكونها ارتباطا بتوجه جديد فى سياسة خارجيه لإدارة جديدة بقدر ماهى إدراك مسبق بمعضلات قائمة أمام خيار عسكرى تملك أدواته وإن كانت لا تحيط بتبعاته. فالولاياتالمتحدة تدرك أن عليها قصف المكونات ال5 التى تشكل البنية الأساسية للبرنامج النووى الإيرانى والتى تشمل منشآت تخصيب اليورانيوم فى ناتانز ومركز التكنولوجيا النووية فى أصفهان ومفاعلات إنتاج الطاقة الكهربية فى بوشهر، ومنشآت مفاعل الماء الثقيل للأبحاث فى آراك، إضافة إلى مركز الأبحاث النووية فى طهران الذى يمثل مركز القيادة العلمية للبرنامج النووى منذ عقود. كما تدرك الولاياتالمتحدة أنها تملك من القدرات الجوية والأنظمة الصاروخية التى تنشرها فى مياه الخليج وبحر العرب وتسهيلات القواعد الجوية فى دول المنطقة ما يوفر لها شن حملة كثيفة وممتدة كافية لشل وربما تدمير المكونات الرئيسية لبرنامج إيران النووى رغم تقديرها لصعوبة المهمة تأسيسا على الانتشار الجغرافى الواسع لهذه المكونات، وطبيعة تعدد منشآت كل منها ومستويات تحصينها القوى، فضلا عن أن الأمر سيتطلب توسيع الجهد العسكرى ليشمل حماية الدول الصديقة فى المنطقة والتحسب لمستويات تصعيد قد تفرض التوسع فى مهاجمة أهداف عسكرية واستراتيجية إيرانية خارج مكونات البرنامج النووى ذاته. ورغم الثقة التى عليها الأمريكيون فى إنجاز المهمة تبدو ثمة معضلتين قائمتين تفرضان على الولاياتالمتحدة التأنى وتدبير الأمر وإعطاء مزيد من الوقت أمام جهد دبلوماسى قد يوفر فى حال نجاحه تكاليف باهظة تفرضها هاتان المعضلتان. أولى تلك المعضلات أن مدى فاعلية القصف الجوى والصاروخى لمكونات البرنامج النووى الإيرانى ستبقى فى أفضل التقديرات محدودة التأثير، حيث يتعلق الأمر هنا ببعدين رئيسيين: أولهما الاحتمالات القائمة بوجود برنامج تخصيب يورانيوم سرى على التوازى لم يكتشف بعد وقد يكون على درجة أكبر من مجمع التخصيب الشهير فى ناتانز وهو ما يعنى استمرار إيران فى برنامجها النووى رغم الجهد العسكرى الأمريكى الممتد والباهظ فى الأجواء الإيرانية، وثانيهما أنه حتى فى حالة عدم وجوده فإن إيران متهيأة بالفعل للأمر وأنها قامت كما تشير تقارير عديدة بإخفاء ونشر عناصر أساسية موازية من برنامجها النووى قد توفر لها استعادة نفس مستويات التقدم الحالى فى برنامجها النووى خلال عامين على الأكثر من القصف، الأمر الذى يعنى تأجيل حيازة إيران لسلاح نووى إلى العام 2017 على أكثر تقدير فى حالة اتخاذ إيران قرارا استراتيجيا الآن بتطوير رأس نووى، وبذلك يظل المطروح أمريكيا إما عمل دبلوماسى يتوازى مع الحملة العسكرية بهدف إجبار إيران على إيقاف أكثر ديمومة لبرنامجها النووى أو فى متابعة لاحقة بهجمات جوية وصاروخية دورية على المنشآت النووية التى سيجرى إعادة بنائها. ثانى المعضلات تكمن فى طبيعة الرد الإيرانى على الحملة العسكرية الأمريكية ضد برنامجه النووى، وتطرح الأدبيات الاستراتيجية الأمريكية تنوعا هائلا من هذه الردود المتوقعة التى تشمل إعاقة ووقف صادرات النفط من الخليج عبر إغلاق مضيق هرمز ومهاجمة خطوط الإمداد البحرية ومنشآت إنتاج وتخزين النفط البحرية والبرية لدول المنطقة، واستهداف القوات الأمريكية فى العراق وأفغانستان وقواعد تمركزها فى دول المنطقة، فضلا عن شن عمليات تستهدف المصالح الأمريكية فى مناطق الشرق الأوسط والعالم، وكذلك القيام بشن هجمات صاروخية تستهدف إسرائيل ومنشآتها النووية على نحو خاص. إلا أن دراسة فاحصة لأسلوب وطبيعة الرد الإيرانى على مدى سنوات عمر نظام الجمهورية الإسلامية فى إيران تشير إلى انتقاله من طبيعة الرد الثورية الجامحة التى سادت سنواته الأولى إلى طبيعة رد براجماتية أصبح يدرك فيها أن مصالحه قد تتحقق عبر الكبح والتأجيل تحسبا لظروف أفضل يمتلك فيها التوقيت والمكان والأهدف الملائمة مع استعراض موقوت أمام الخصوم لقدراته فى الرد كأداة أساسية فى إدارة أزماته.، لذا يبدو تركيز المسئولين الإيرانين على التهديد بإغلاق مضيق هرمز سياقا منطقيا لبراجماتية إيرانية رشيدة. وإيران التى تدرك الأهمية الاستراتيجية الخاصة للمضيق القابع على قمة كوابيس أمن الطاقة العالمية بقدر ما تدرك طبيعته الجغرافية الخاصة قد طورت عقيدة حرب بحرية غير متماثلة منذ العام 2005 تحقق لها إمكانية الإغلاق أو العرقلة الفعلية للملاحة البحرية العابره لفترة زمنية ممتدة فى مواجهة بحرية أمريكية تقدر مدى هيمنتها فى معارك البحر الكلاسيكية وقوة نيرانها الهائلة، وتعتمد إيران عمودين رئيسيين لعقيدتها تستعيد فيهما سوابق تاريخية تفحصتها بعناية وطوعتها لقدراتها القائمة، الأول: استعادة التجربة الألمانية التركية فى إغلاق مضيق الدردنيل أمام الأسطول البريطانى فى العام 1915إبان الحرب العالمية الأولى بتلغيم الممرات الملاحية الضيقة عبر المضيق ثم من مواقع شاطئية حصينة تتولى القصف النيرانى لسفن إزالة الألغام وكذلك للسفن التجارية التى تحاول شق طريقها عبر الممرات التى تم تطهيرها، وبينما اعتمدت التجربة السابقة على نيران المدفعية الساحلية فإن الإيرانيين هذه المرة سيعتمدون على أنظمة الصواريخ المضادة للسفن التى تتوافر بمديات كبيرة وتتمتع بدقة توجيه ومستويات تدمير عالية، الأمر الذى يؤشر لصعوبة المهمة الملقاة على عاتق القوة الجوية الأمريكية لتحييد هذه المنظومات قبل الاستغراق فى عملية إزالة الألغام وفتح الممرات الملاحية داخل المضيق وتقدر المصادر العسكرية أن الأمر قد يحتاج ما بين 5 إلى 16أسبوعا كاملة لتحقيق ذلك. العمود الثانى فى تلك العقيدة يعتمد العمليات الانتحارية ضد سفن الأسطول الأمريكى والسفن التجارية العابرة فى استعادة لوقائع هجمات «الكاميكازى» اليابانية إبان معركة أوكيناوا فى الأيام الأخيرة من الحرب العالمية الثانية فى عام 1945، وتعتمد إيران فى ذلك على أسطول ضخم من الزوارق الصغيرة السريعة الكثيفة التسليح وعلى أسلوب الاجتياح الذى يستخدم عشرات من هذه الزوارق التى تنطلق نحو أهدافها بصورة مفاجئة وسريعة وعبر عدة اتجاهات متزامنة لقصفها وتدميرها عن قرب. قد يكون ما طرح تصورا لتعقيدات تواجه عملا عسكريا أمريكيا ضد البرنامج النووى الإيرانى فى حال فشل جهد دبلوماسى مقبل مفتوح وصريح بين إدارة أوباما وإيران، ومن المؤكد أن العسكريين الأمريكيين يتهيأون ويتأهبون لذلك الأمر، لكن الملفت بقوة أنهم أمام خصم يجيد توظيف حدود قدراته العسكرية على طاولة المفاوضات بذكاء وفهم كاملين.. فالطاولة يصعب أن تكون خالية كما يفضلها آخرون ليسوا بعيدين.