«سوريا اطلعى برا..»، «نعم لسيادة لبنان لا لسجن سوريا»، «بدنا التار من بشار». ذلك كان غيض من فيض اللافتات المعادية لسوريا، التى علقت أمام مسجد محمد الأمين بالقرب من ضريح رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريرى فى أعقاب اغتياله فى فبراير 2005. وخلال الخمس سنوات التى تلت كانت الخصومة أو التحالف مع سوريا هى أحد أهم عوامل تعريف الصراع السياسى بين الجماعات اللبنانية المختلفة. رغم مرور أسبوع على الزيارة الأولى لرئيس الوزراء اللبنانى سعد الحريرى إلى دمشق ما زالت تشكل مادة رئيسية للنقاش العام فى لبنان. ولا يمكن فهم زيارة الحريرى لدمشق التى كان يتهمها بقتل والده بمعزل عن أحد أهم ثوابت العلاقة السورية اللبنانية ألا وهو العلاقة المتأرجحة دوما بين الخصومة والتحالف. ففى عام 76 دخلت سوريا لبنان بناء على طلب الرئيس إلياس سركيس لمحاربة منظمة التحرير والكتلة الوطنية برئاسة كمال جنبلاط ثم كان أن غيرت تحالفاتها بعد أقل من سنة. فيما ميشيل عون رئيس كتلة التغيير والإصلاح والزعيم الأكثر شعبية بين مسيحيى لبنان هو المثال الحى لهذا التأرجح من عدواة وصلت حد الحرب بين الطرفين والنفى السياسى لمدة 15 عام إلى كونه اليوم أقرب السياسيين المسيحيين لدمشق ويتمتع بعلاقة وطيدة مع الرئيس بشار الأسد. حتى إنه فى خضم الحملة اللبنانية ضد النظام السورى التى وصلت إلى حد المطالبة بإقالته ومحاكمة رأس الدولة خلال السنوات القليلة الماضية لم يبد مسئولون سوريون مثل مهدى دخل الله السفير السورى فى الرياض حاليا ووزير الإعلام آنذاك قلقا يذكر حين سئل عن تأثير الحملة المناهضة لسوريا على النظام. «لا تدهشنا تصرفات جنبلاط ورفاقه. سيأتى يوم يعودون فيه إلى دمشق» كان دخل الله يجزم لمحدثيه بدون تردد آنذاك. وهو جزم لم يمنع تساؤل مشروع عما إذا كانت تلك المقولات تعكس حالة من الإنكار التى سادت بين النخبة السورية بعيد اغتيال الحريرى لواقع شديد الوطئ فرض على سوريا حالة من العزلة الإقليمية والدولية لم يكسرها سوى حلفها المقدس مع إيران. غير أن دخل الله أحد مهندسى مشروع تطوير حزب البعث كان ينطلق من مبدأ أن موقف سوريا من لبنان ثابت فيما المتغير مواقف الأطراف الأخرى، حيث حلفاء الأمس باتوا خصوم اليوم. ويعتبر سعدالله مزرعانى نائب الأمين العام للحزب الشيوعى اللبنانى أن الزيارة كانت ثمرة تحول فى الموقف السعودى أكثر مما هو تحول فى الموقف السورى. غير أن ما جرى فى الشهور الماضية (قبل الانتخابات وبعدها) بات يؤشر بأن الذين طالبوا لخمس سنوات ولت ب«التار من بشار» قد بدأوا ب«استدارة سياسية»، وهو تعبير مهذب يطلقه اللبنانيون على التحولات والتبدلات غير المفهومة لسياسييهم، التى يمكن الإشارة إليها اختصارا ب«الإنتهازية السياسية». بدأت إذن وفود السياسيين اللبنانيين فرادى وجماعات تيمم وجهها شطر دمشق بعد طول القطيعة خلال التسعينيات ظل قادة المجموعات اللبنانية يزورون دمشق لزيادة ثرواتهم وحصتهم فى السلطة ضمن النظام السياسى، الذى كانت تديره دمشق عبر شبكة معقدة ومتداخلة مع المخابرات السورية وقوى الأمن اللبنانية. وربما يؤرخ لهذا التحول بما آل إليه موقف الزعيم الدرزى وليد جنبلاط، الذى تزعم حملة شرسة ضد نظام الأسد وصلت إلى حد استخدام الإهانات الشخصية حيث يتبنى اليوم خطابا تصالحيا تجاه سوريا، وفى انتظار موافقة دمشق على زيارتها. حتى بطريرك الموارنة نصرالله صفير لم يكتم رغبته فى زيارة دمشق لكن «بناء على دعوة رسمية». لقد شكل اغتيال الرئيس الحريرى أحد أهم التحديات التى واجهت الرئيس بشار الأسد ونتج عن «خسارة لبنان» كما وصفها أحد المحللين الغربيين انقسام داخل النخبة السورية حتى إن بعض المحللين اعتبر أنه إذا استطاع الأسد أن يتغلب على الانقسام الداخلى الذى خلفه انسحاب سوريا من لبنان فسيكون قد حقق إنجازا مهما، ويكون الأمر بمثابة نقطة تحول فى حكمه. وفى السنوات التى أعقبت الخروج السورى من لبنان بعد ثلاثين عاما كانت سياسة سوريا تجاه لبنان مفروضة عليها من قبل القوى الإقليمية والدولية أكثر من كونها أمرا اختياريا. فسر البعض زيارة الحريرى التى ستكر من بعدها سبحة زيارات المسئولين اللبنانيين لدمشق على أنها نصر للأسد الذى واجه نظامه ضغوطا شديدة للتخلى عن لبنان وتغيير سياساته تجاه هذا البلد غير أن الاختبار الحقيقى لم يأت بعد وهو كيفية إدارة علاقة صحية مع لبنان لا تستعيد «الأخطاء» التى أعترف الأسد فى خطاب له فى أبريل 2005 أنها أرتكبت من قبل سوريا فى لبنان. قد تعمل سوريا على تعديل سياساتها باتجاه لبنان غير أن هذا الأمر سيظل مرتبط ارتباطا وثيقا بحصولها على ضمانات أن هذه التعديلات لن تشكل تهديدا لاستقرارها الداخلى كل الانقلابات العسكرية فى سورية الحديثة كانت تحاك إما من العراق أو لبنان ولن تأتى على حساب مكانتها الإقليمية. ويبدو الاختبار أمام الأسد والحريرى هو عما إذا كان الطرفان بإمكانهما تمتين العلاقة بما يؤهلها لمواجهة تحديات الفترة المقبلة أم أن العلاقة السورية اللبنانية ستظل حبيسة تراث من عدم الثقة المتبادلة.