التذمر الذى تبديه إدارة الرئيس أوباما وإن كان خجولا من المنهج الذى تتبعه حكومة إسرائيل الحالية بقيادة حزب الليكود، أضاف إلى شعور إسرائيل بالعزلة، بعد ما أفرزه تقرير جولدستون من إدانات واضحة للسلوك الإسرائيلى فى حربها قبل عام على أهالى غزة. واستمرار إجراءات قضائية وتستوجب توقيف مسئولين إسرائيليين ارتكبوا جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية كما حصل أخيرا لوزيرة الخارجية السابقة تسيبى ليفنى، مما حال دون ذهابها إلى مؤتمر فى لندن، أجل إن تقرير جولدستون حال الفيتو الأمريكى المحتمل وصوله إلى مجلس الأمن.. كل هذه التطورات الأخيرة دفعت الطاقم الحاكم فى إسرائيل فى بدء حملة لإبراز صورة نتنياهو وكأنه حريص على السلم، وأنه بصدد أخذ إجراءات مؤلمة بغية إنجاز سلام، مع رغبته ألا يكون على حساب وحدة حزبه ووحدة الشعب الإسرائيلى. إن الذى يقوم بهذه الحملة هو شيمون بيريز الذى يعمل على إيصال رسالة إلى الإدارة الأمريكية والرأى العام العالمى مفادها أن متشددين سابقين أمثال بيجين وشارون قاموا بمبادرات تتسم برغبة فى الانفتاح مما أدى مثلا إلى «معاهدة الصلح مع مصر» و«الانسحاب من قطاع غزة» أثناء رئاسة شارون للحكومة الإسرائيلية.. وكما ورد فى جريدة نيويورك تايمز يوم 17 ديسمبر أن دور بيريز هو بمثابة «موجِّه» أحيانا ومستعد للاستماع والاقتراع عند الاقتضاء.. كما يحاول بيريز الإيحاء بأن نتنياهو لديه رغبة القيام ب«صفقة» مع الفلسطينيين، لكنه متوجس من قاعدته السياسية. فى هذا الصدد يقول بيريز إن دعوة نتنياهو لحل الدولتين كان بمثابة اختراق عقائدى.. لأن نتنياهو «يريد أن يكون الرجل الذى يصنع السلام» لكنه ليس متأكدا من الثمن.. وتابع مع مراسل النيويورك تايمز حديثه «لكن لا يريد أن يكون ساعيا للسلام ولكن يكتشف فى الصباح أنه ليس لديه الأكثرية.. هذه معضلته». إن ما يمكن أن يندرج فى خانة إستراتيجية «تلميع» صورة نتنياهو التى يمهد لها بيريز من شأنها أن يرد عليها كون دعوة نتنياهو لحل الدولتين لم يكن «اختراقا عقائديا» بل تلاعبا فى مصطلح «الدولة» الفلسطينية، بمعنى أن سيادتها منقوصة بشكل يقارب الإلغاء، وحدودها ملتبسة واستقلالية إرادتها مفقودة.. كما أن عاصمتها غير معروفة أو محددة.. أما فيما يتعلق «بتجميد» الاستيطان فهو إضافة عدة عشرة أشهر بغية إرضاء البيت الأبيض.. لكن ماذا بعد العشرة أشهر؟ أكثر وأخطر من ذلك استثناء القدسالمحتلة من «التجميد» كونها العاصمة الأبدية لإسرائيل، مما يعنى أن التمدد الاستيطانى فيها مستمر كونه «حقا» وأن الحدود الزمنية للتجميد يعنى ديمومة المستوطنات، خاصة أن تجميد المستوطنات لا يلغى حق بناء المدارس والمعابد وغيرها من المعالم التى من شأنها ديمومة الاستيطان، وبالتالى احتمال المزيد من اتساعها. ولعل ما يختزل الموقف الإسرائيلى فى هذا الصدد هو جواب وزير خارجية إسرائيل ليبرمان عندما سئل ماذا عن موقف الفلسطينيين؟ أجاب ليبرمان: «هذا آخر اهتماماتنا!» وكأن الفلسطينيين فى أرضهم مجرد حواجز بشرية أمام خطط التمدد الاستعمارى. إننى مدرك سوف يجيب بعض «الواقعيون» أن ليبرمان يمثل أقصى اليمين المتشدد، لكنه لا يزال وزير الخارجية لإسرائيل. إن تسويق بيريز لنتنياهو «كرجل سلام» هو بمثابة استهزاء بعقول الناس، كونه يعتبر أن له سمعة «معتدل» أراد توظيفها لخدمة تسويق من نظّر ونظّم وبرّر كل الممارسات الإسرائيلية الساعية لإلغاء حقوق الوطنية والإنسانية للشعب الفلسطينى.. وفى موقعه الحالى صار لتنفيذ الإلغاء. لماذا نشير إلى خطورة ما تنطوى عليه إستراتيجية شيمون بيريز لتلميع صورة نتنياهو، خاصة وهو يعمل على أن يمرر ما حققه كل من بيجين وشارون كخلفية لما يمكن أن يحققه نتنياهو. إن بالمقارنة بين نتنياهو وأسلافه اليمينيين الشرسين، نجد أن ما قام به بيجين يكمن فيما ساهم فى تفكيك العقد العربى، مما أدى إلى إضعاف خطير لردع تمادى إسرائيل فى المزيد من استباحة كل من شعبى لبنان وفلسطين بدون أية كلفة عقابية على ما قامت إسرائيل من عدوانات شرسة وجرائم حرب. كما فى غزة منذ عام، إضافة ما استولدته معاهدتا الصلح مع مصر والأردن من قدرة قوى إقليمية لملء الفراغ، كما أدت إلى فقدان المناعة القومية، كما فقدانها فى العديد من الأوطان العربية.. وهكذا نجد أنه بالاستعانة بخلفية بيجين أن ما حققته أجهض وعود مرشحة للإنجاز، وبالتالى أمعنت فى توفير مزيد من تسهيلات لتعطيل استقامة مسيرة الوحدة القومية. أما شارون فالقول إنه ساهم فى انسحاب إسرائيل من غزة، فهذه مغالطة فظة.. كون ما يسمى «انسحاب» من أراضى محتلة يعنى عودة السيادة إلى الأراضى التى انسحب المحتل منها. فى غزة لم يكن أى انسحاب، بل إعادة تموضع، مما يعنى أن المحتل يستطيع عندما يشاء ممارسة الحق فى عودة قواته المسلحة حينما يشاء وعندما يشاء. ولعل المجازر التى ارتكبتها إسرائيل فى غزة منذ إعادة تموضعها، واستمرار القبضة عليها تمثلت فى الحصار الخانق، ومن ثم إلى المجزرة الكاملة التى مارسها الجيش والطيران الإسرائيلى منذ عام، وهو الذى أدانته لارتكاب جرائم الإنسانية تقرير القاضى جولدستون والعديد من هيئات المجتمعات المدنية والمنظمات المعنية بحقوق الإنسان التى تتصدى للجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب. إن ما يسمى زورا بالانسحاب هو الخدمة الكبرى الذى سقط فى مصيدتها من رجحوا التزام المقاومة بدلا من مفاعيل اتفاقيات أوسلو. وهكذا كانت خطة شارون إبقاء السيطرة على غزة دون تحمل إدارة تبعات الكثافة السكانية، مع الاحتفاظ بحق التدخل والمحاصرة وإحكام الطوق عليها وعلى سكانها، ومن ثم تسويق التموضع كانسحاب، ثم ما أفرزه شارون فى غزة هو ما آلت إليه الأوضاع إلى الانقسام المريع بين المنطقتين المحليتين ووقع الفصائل الفلسطينية فى المحظور، وبالتالى اختراق ما لا يزال يهدد الوحدة الوطنية الفلسطينية، وتعميق الانفصام من خلال انفراجات اقتصادية بغية تحويل الانقسام الوطنى إلى حالة من الاغتراب فى ضوء تباينات اجتماعية وفوارق فى المستويات المعيشية، مما يؤول أن تصبح الضفة شبه محمية أمريكية إسرائيلية، وسلطة فى غزة تحصر التزاماتها فيما يسمى «الحكومة». وهكذا تتحول النغمة العارمة ضد الاحتلال بين واقعية التناغم مع مشروع «الدولة» التى صاغها نتنياهو فى جامعة بار ايلان، واستثنى القدس من كونها بندا فى إنجاز الدولة المسخ التى يدعو إليها.. ومحاصرة خانقة لقطاع غزة ريثما تتحول النقمة المشروعة لا إلى مقاومة بل إلى مسلسل من الانتقامات العبثية لرفضها إخراج القدس من أية معادلة أو تسوية. وهكذا فإن محاولة بيريز إقناع العالم بأن نتنياهو مرشح «للاعتدال» أسوة بأسلافه بيجين وشارون، عندئذ يكون «اعتدال» نتنياهو أنه تمكن من تكامل مشروع أسلافه بأن خروج إمكانية الردع من القدرة العربية إرث بيجين ومن ثم انشطار حتى وحدة الأراضى المحتلة. إرث شارون نتنياهو فى تعامله مع القدسالمحتلة.. يضاف إلى هذا ما أورثنا إياه «يمينيون» اعتدلوا... إن ما قاله ليبرمان فى جوابه على ماذا عن الفلسطينيين؟ أجاب هذا آخر اهتماماتنا! السؤال يكمن لا فى الرد والتفنيد لهذا التزوير، إنما بإعادة ثقافة المقاومة واستعادة واقعية الوحدة الوطنية الفلسطينية، وأن تجىء لا من خلال مصالحات قبلية بل كشعور بمسئولية تاريخية والتزام مبدئى وأخلاقى حتى تستقيم مسيرة التحرير، وأن تؤدى هذه الاستقامة إلى عودة نجاعة مسيرة الوحدة حتى لا تبقى إسرائيل ممسكة بمفاصل إدارة الصراع فى المنطقة، وألا يدوم المصير الذى تستحقه شعوبنا بحالة التبعثر التى نجد أنفسنا فيها.. الأهم ألا نستقيل من التفاؤل وإن كان يبدو بعيد المنال. مدير مركز عالم الجنوب بالجامعة الأمريكية فى واشنطن