من الواضح إصراره الشديد والقوى على فناء الأرض بمن عليها.. ذلك هو المخرج الألمانى (رولاند أمريش). فهو يحيا لنموت، ولا يحلم إلا بنهايتنا جميعا نحن البشر. لا أعلم سرا وراء رغبته الدفينة تلك فى القضاء علينا جميعا، أنت وأنا وكل من على المعمورة. هل هى أعراض اكتئاب حاد لا علاج له؟ أم هى مزيج من مازوخية على سادية فى مرحلة تحور متقدمة؟. وإلا فبماذا تفسر استمرار هذا المخرج الممسوس، والمبدع فى الوقت ذاته، فى صناعة تلك السلسلة من الأفلام الكوارثية عن نهاية العالم وتلذذه بإظهار تفاصيل تلك النهاية بلا رحمة أو شفقة بقلوب مشاهدين يدعون رفاهة الإحساس أحيانا. فبعد أن خرجنا سالمين غير مصدقين النجاة من هجومه الفضائى على كوكب الأرض فى independence day عام 1996، استطاع بمهارته أن يجرنا جرا إلى The day after tomorrow فقاومنا ضربات الأعاصير وحصار الثلوج وخرجنا أحياء مرة أخرى بأعجوبة، نجرى ولكن للوراء حتى اصطدمنا ب10.000 BC لنشاهد بأعيننا بداياتنا كبشر منذ آلاف السنين.. ربما كتمهيد لنهايتنا الحتمية كبشرية فى 2012، فيلمه الجديد. اختيار التاريخ 2012 لم يكن عبثا، فهو اقتبس فيلمه عن رواية «بصمات الرب» ل(جراهام هانكوك) والتى اقتبسها بدوره عن قناعة أسطورية عمرها أكثر من أربعة آلاف عام كانت لدى أصحاب حضارة المايا على أرض أمريكا الوسطى. تلك القناعة فحواها بأن نهاية الحياة على الأرض ستكون، وبدقة شديدة، بنهاية يوم 21 ديسمبر عام 2012 بتقويمنا الميلادى.. أى أنه أذا صحت النبوءة، ويا ليتها تصح، فيكون أمامنا فقط ثلاث سنوات أخرى من العذاب بأفلام كوارثية فنائية أخرى لنفس المخرج.. ذلك هو الجانب المشرق الوحيد لتلك القصة إن صحت. اعترف بأنه لم تكن تشغلنى كثيرا حقيقة نهاية العالم.. كنت كلما أحاول البحث عن علامات تلك النهاية فى الكتب أصطدم بعلامات من نوعية: «هلاك الوعول» فأراها بعيدة فما أكثرهم يحيطوننا فى كل مكان. «انحسار الفرات على جبل من ذهب» فأراه متماسكا متدفقا كعادته فاطمئن. حتى فى «ظهور القينات والمعازف» فلا أجد شيئا بهذا الاسم من حولى فيزداد هدوئى. انتظر «خروج يأجوج ومأجوج» فيطول انتظارى بحثا عن منشأهما بلا نتيجة فأستكين أكثر وأكثر.. أما عن «اختباء يهودى وراء شجرة» فلم يعد فى زحام القاهرة شجرة يمكن الاختباء وراءها أو حتى فوقها سواء ليهودى أو بهائى. ازدادت سكينتى الداخلية وقناعتى بأن نهايتى ستكون تقليدية رتيبة: محترقا فى قطار الصعيد أو أحد مسارح قصور الثقافة، أو معتلا بعد أكل ثمرتين من الخيار المسرطن المروى بمياه المجارى، وربما أكون محظوظا فأموت غرقا على عبارة ظهيرة يوم صيف حار. ظللت على سكينتى إلى أن حانت الساعة: العاشرة تماما داخل قاعة عرض لفيلم 2012. هنا كان قيام الساعة بالنسبة لى ولباقى المشاهدين. وقد سمعت مشاهدة تقرأ الشهادة وفى يدها كيس كبير من الفشار تتمسك به. مشاهد آخر اتصل بأخيه وسط أهوال الفيلم يطلب منه السماح! علامات الساعة فى الفيلم مختلفة عن علاماتنا السماوية.. فهى علامات أرضية علمية أقرب إلى الاستيعاب والفهم.. ومن هنا يأتى الرعب الحقيقى. ف(أدريان) عالم جيولوجيا أمريكى يكتشف وهو فى الهند، وبمساعدة عالم جيولوجيا هندى، علامة أرضية لنهاية العالم: مجموعة من التفاعلات تحدث داخل الأرض وتؤدى إلى تصاعد مستمر وسريع فى درجة حرارتها سيؤدى حتما إلى فنائها حيث إنه لا سبيل إلى وقف تزايده. يقوم (أدريان) بإبلاغ رئيس ديوان الرئاسة بالبيت الأبيض (كارل) الذى يبلغ بدوره الرئيس الأمريكى ذاته. يعرض الأمر على عجل على رؤساء دول مجموعة الثمان الأعظم. يتخذون قرارا سريا بالتعاون على سرعة صناعة سفينة عملاقة ترسو فوق جبال الهيمالايا تكون هى الملاذ الوحيد الممكن لإنقاذ بعضهم بحجة إنقاذ جنس البشرية من الفناء. السفينة مصممة لعدد 400.000 فرد من البشر يتم اختيارهم بعناية بواسطة الثمانى الكبار. يتم طرح عدد من «تذاكر الركوب» على هذه السفينة بصورة سرية بسعر بليون يورو للتذكرة وذلك لتغطية تكاليف المشروع الهائلة (انصحكم بالبدء فى الادخار من الآن). يستطيع بالمصادفة (جاكسون) سائق الليموزين الخاص بالملياردير الروسى (يورى كاربوف) أن يضطلع على سر السفينة حيث إن الملياردير أحد المشترين لتذاكرها فئة البليون يورو. يسعى (جاكسون) لإنقاذ عائلته المكونة من أبنائه وزوجته السابقة وصديقها (جوردون) طبيب التجميل الذى يهوى الطيران وذلك باللحاق بركب السفينة الراسية بعيدا خاصة أن علامات الساعة قد بدأت فى الظهور بقسوة، تضرب المدن الأمريكية الواحدة تلو الأخرى بلا رحمة. فتتلاحق الزلازل والبراكين والأعاصير بلا رادع، وتتشقق الأرض لتبتلع مدن بكاملها، ترتفع أمواج المحيطات لتمحو مقاطعات وولايات كاملة محوا كاملا من الوجود. تنجح المجموعة فى الوصول إلى السفينة فى اللحظات الأخيرة بواسطة مهارة (جوردون) فى قيادة سلسلة من الطائرات الواحدة بعد الأخرى متجهين نحو الهيمالايا وكذلك أموال (كاربوف) فى استئجار تلك الطائرات وبطولات (جاكسون) التقليدية الأمريكية فى تخطى الأهوال دون خسائر تذكر.. فكالعادة يكون هو وأبناؤه وزوجته السابقة هم الناجون الوحيدون من كل تلك المجموعة ويستطيعون بالفعل الصعود إلى داخل السفينة. بينما تندثر الأراضى بمن عليها القطعة تلو الأخرى والقارة تلو الأخرى وتأكلها الأمواج يستطيع البعض من النخبة والصفوة والسطوة، سواء بالنفوذ أو السلطة أو المال، النجاة بالوجود داخل السفينة العملاقة.. وهى الشىء الوحيد الذى نجا من تلك الكارثة تماما كسفينة نوح منذ بضعة آلاف من السنين. فيلم رائع ومبهر على الصعيد التقنى.. استخدام جديد شديد التميز لأحد الأفرع الجديدة لفن السينما وهو المؤثرات البصرية الخاصة أو الجرافيكس. فهو بالقطع أعظم ما تم إنتاجه حتى الآن من أفلام قائمة على ذلك العنصر. وأهم ما يميز تنفيذ أعمال الجرافيكس فى هذا الفيلم هو ما قد اسميه الواقعية الخيالية. فإن تتشقق الأرض لابتلاع سيارة سيات فى باب الشعرية بسبب حفر المرحلة الثالثة من مترو الأنفاق هو شىء عادى تماما اعتدنا عليه. لكن أن تنشق الأرض لابتلاع مدينة نيويورك بكاملها فذلك هو الخيال الذى لم تره عين ولن تراه حتى ديسمبر 2012. ولكن رغم عدم رؤيتنا المسبقة لذلك الحدث من قبل فإنك لا تشك لحظة فى أنه، فى حالة حدوثه، سيكون هكذا كما رأيناه فى الفيلم تماما.. وهكذا بالنسبة لسحق البراكين للبلاد فتنصهر فى ثوانٍ، والتهام المحيطات بأمواجها للقارات بسكانها ومبانيها فى لمحة بصر. هل حدثتكم عن الزلازل فى الفيلم وما أصابنى بعدها من خلل فى التوازن؟ حتى إننى اضطررت لترك سيارتى بالسينما والاستعانة بتاكسى للعودة للمنزل.. وظللت طوال الطريق أراقب الأسفلت منتظرا انشقاقه بين لحظة وأخرى، وكلما ظهر مطب (وما أكثرها) أصرخ فزعا حتى اضطر السائق إلى إنزالى حتى دون أخذ الأجرة. أما عن المستوى الفنى وعن القيمة الإنسانية للفيلم فهى شديدة التواضع. فكرة وجود ناجين بعد قناعة المشاهد أنها نهاية العالم الحقيقية أضعفت الفيلم تماما وأنزلته من مرتبة التفرد (الذى كان محتملا ومتوقعا بأن ينتهى بلا ممثلين لايزالون أحياء).. إلى مرتبة التماثل والتنافس مع غيره من أفلام الكوارث الطبيعية الكبرى التى تمر على البشرية. وكنت أحلم وأتساءل منذ بداية الفيلم عن كيفية إنهاء المخرج له بعد الفناء التام. كذلك اختياره للناجين بأنهم فقط ذوى السلطة والنفوذ والمال، باستثناء أبطال الفيلم الثلاثة، هو فى حد ذاته من أسباب ضعفه. استمرار النموذج الأمريكى المتكرر فى وجود البطل الأوحد الذى يحقق المعجزات ويسوى الهوائل ويستمر ويستمر ويتوغل أصابتنى بإحباط.. فلماذا لا يكونون بشرا كسائر البشر: تنجح أحيانا وتفشل أحيانا أخرى، تنجوا مرات وتهلك مرة.. مثلما هلك مليارات من البشر فى نفس الفيلم. يبقى من الفيلم مشهد مازال يثير حيرتى. فقد رفض الرئيس الأمريكى فى الفيلم ركوب السفينة مفضلا البقاء وترك مكانه لشخص آخر أقل عمرا وأكثر شبابا. ولم يتطرق الفيلم لموقف باقى الرؤساء فى باقى الدول، خاصة فى منطقتنا العربية. ترى ما يكون قرارهم فى هذا الوضع؟ أثق تماما فى أن موقف حكامنا كان سيكون مماثلا متطابقا فى رفض الصعود على السفينة والتمسك بالبقاء كل فى بلاده. القرار واحد بالقطع.. وإن كانت الدوافع بالتأكيد مختلفة.