نشر الناقد الأدبى الكبير المرحوم الدكتور عبدالقادر القط ديوانا وحيدا صدرت طبعته الأولى عام 1958، وقد كتبت قصائده بين عامى 1941و1943، لكن الشاعر قد سافر إلى الخارج فى بعثة لدراسة النقد الأدبى لمدة خمس سنوات قبل نشرها فى ديوان، ثم ظل بعد أن عاد مترددا فى نشر الديوان لمدة عشر سنوات أخرى، بعد أن غلب وعيه النقدى موهبته الشعرية الواعدة وأجهز عليها تماما. والديوان يضم اثنتين وعشرين قصيدة من الشعر الرومانسى المتميز الذى كان يمثل تيارا شعريا رائجا فى ذلك الوقت، أما من ناحية الوزن والقافية فقد ضم الديوان أربع قصائد عمودية موحدة القافية، بينما جاءت باقى القصائد فى صورة مقطوعات ومربعات متنوعة القوافى. وإذا نظرنا إلى القصيدة الأولى فى الديوان وهى قصيدة «قلق» على سبيل المثال، فسنجد فى مربعاتها نفسا شعريا متميزا ربما يكون قد أوحى وأثر فى شعراء كبار بعده برعوا فى كتابة الرباعيات، حيث يقول مثلا: ليس مجدا أو غراما ما أريد ليت شعرى.. أى شىء أفتقد؟ أى شىء! كل شىء فى الوجود آه لو جُمِّع يوما فاتحد! وهو قد يذكرنا برباعية صلاح جاهين التى تقول: جالك أوان ووقفت موقف وجود يا تجود بده يا قلبى يا بده تجود ما حد يقدر يبقى على كل شىء مع إن عجبى كل شىء موجود ويقول القط فى موضع آخر من القصيدة نفسها: أى شىء فى حياتى قد فقدته؟ أى معنى من زمانى أبتغيه كلما خُيِّل لى أنى وجدته قذف التنور بالنيران فيه وقد يذكرنا هذا برباعية جاهين التى تقول: أوقات أفوق ويحل عنى غبايا واشعر كأنى فهمت كل الخبايا وافتح شفايفى عشان أقول الدرر ما قولشى غير حبة غزل فى الصبايا أما قول القط فى قصيدة «عَرَّافة» لفتاته الجميلة التى ذهبت لتقرأ طالعها فى الفنجان خوفا من المستقبل: يا فتنتى لا ترهبى الغيب الخبىء ولا دجاه هو صنع أيدينا نكاد إذا أردنا أن نراه غرسٌ من الأفراح والأتراح والسلوى ثراه نُلقى به فى يومنا ونذوق من غدنا جناه تهب الحياة لنا غدا من مثل ما نهب الحياه! فهو من وجهة نظرى يضارع فنيا قول الشاعر الرومانسى التونسى الكبير أبوالقاسم الشابى: إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر ولابد لليل أن ينجلى ولابد للقيد أن ينكسر وإن كان السياق الثورى الثائر لدى الشابى فى هذا النص، يختلف عن السياق العاطفى الهادئ لدى القط فى ذلك النص. ونحن لا نعدم أن نجد لدى القط ثورة تبدأ بنفسه وبمذهبه الفنى أحيانا، حيث يقول فى قصيدة «وماذا بعد ؟!»: شباب تائه حائر يدارى جَدَّه العاثر ويهتف: هكذا الشاعر فليت الفنَّ يهجرنا وليت الشعر يجفونا كفى يا قلب أوهاما تغول اليومَ والعاما أنقضى العمر نُوَّاما بلا عمل يمجدنا ولا ذكر يواسينا كفى يا قلب إجفالا فهذا العجز قد طالا ولسنا بعد أطفالا وما تجدى رؤى الحالم لذى ست وعشرينا هذه لمحة عجلى عن موهبة شعرية متميزة أجهز عليها الوعى النقدى المتخصص كما يتضح من الديوان نفسه الذى تردد شاعره فى نشره أكثر من خمسة عشر عاما، ثم صَدَّره بمقدمة نقدية طويلة تبلغ أكثر من ثلاثين صفحة، تعد من وجهة نظرى واحدة من أهم المقدمات النقدية فى الشعر العربى المعاصر، وسوف نعود إليها فى مقال آخر . وقد اعترف الشاعر ضمن هذه المقدمة بأنه كان يمارس وعيا نقديا على شعره حتى فى لحظات الإبداع، حيث قال: وأذكر أنى حين قلت فى قصيدة «رؤيا»: قد بكينا وأمِنَّا أن نرىو الأسى فى وحشة الظلماء يحلو دمعة فى الليل ما أروعها تتلوى مثلما ينساب صِلُّ مثل لذع النار قرت فى فميولها فى وجهى المحرور غلُّ طاف بخاطرى ما يذخر به الشعر التقليدى من إغراق فى الحديث عن الدموع والبكاء، فأشفقت أن يؤخذ قولى على أنه مجرد اتباع لتلك السنة المألوفة، وأحسست بضرورة الاعتذار عن هذا الانفعال العنيف فأتبعت الأبيات السابقة بهذين البيتين: لا تخلها بهرجا من شاعر يملأ القول من الزيف ويغلو فلقد تعلم يا طيفى أنىما ذكرت الدمع فى شعرى قبلُ وهكذا كان الوعى النقدى يكبح جماح التوهج الانفعالى العاطفى فى قصائد الدكتور القط حتى فى لحظات الإبداع، كما أن عنوان الديوان نفسه «ذكريات الشباب» يشى فى طياته باعتذار نقدى عن تجربة شعرية رومانسية على الرغم من أنها كانت تمثل صوتا متميزا. وقد سئل الدكتور القط قبيل وفاته فى برنامج إذاعى عما كان يفعل لو فرض أن حياته الأدبية بدأت من جديد، فقال: «كنت أعطى الشعر اهتماما أكبر!».