لم أرتد فى مراهقتى البنطلونات القصيرة التى تظهر الجوارب البيضاء من تحتها أسوة بنجم أغانى البوب الشهير، ولكننى أحببت أغانيه وأدمنت سماعها... ذلك هو الأسطورة: مايكل جاكسون. أتذكره صبيا ضمن فريق «Jackson 5» يرقص ويغنى وسط أخوته. أقول صبيا لأن منفذنا الوحيد فى ذلك الوقت لمشاهدة الأغنيات الأجنبية المصورة كان من خلال برنامج «العالم يغنى»، وكانت مقدمة البرنامج تقدم أغنيات ذلك الفريق فى أوائل الثمانينيات على أنها أحدث أغنيات الفريق... وكنت أراه صبيا فى الثالثة عشرة من العمر فظننته من عمرى. وعندما اكتشفت لاحقا أنه من مواليد عام 1958 وأن فريق الأخوة جاكسون ذاته تأسس عام 1971 اكتشفت بالتبعية، وبحسبة رقمية بسيطة، أن برنامجى المفضل «العالم يغنى» يقدم أحدث الأغنيات بعد عشر سنوات من صدورها... ربما لبطء الشحن البرى والجوى والبحرى فى ذلك الوقت. وكانت بالتالى صدمتى فى مقدمته الرائعة «حمدية حمدى» قاسية دامية لم تمح آثارها على مدى كل تلك السنوات. واحتدمت تداعيات الصدمة فقاطعت مشاهدة البرنامج، ولكننى أبدا لم أقاطع متابعة ذلك النجم الأسطورى وتتابع إصدارات ألبوماته. كانت رقصاته مصدر إلهام لى وللعديد من الأصدقاء كما كانت مصدر متاعب أيضا... فأتذكر طول الفترة التى قضاها أحد أصدقائى ويدعى (ياسر) فى مستشفى العظام للتشافى والتعافى من الكسور التى لحقت به من جراء السقوط الأليم عند محاولته تقليد رقصات ال Break dance وال Moonwalk بالقرب من، مع الأسف، سلم العمارة. وخرج صديقى من تلك المحنة بعرجة خفيفة للقدم اليسرى بالإضافة إلى لقب (ياسر Break) والذى لازمه حتى التحاقه بالسلك الدبلوماسى. بدأ إعجابى بملك البوب يقل تدريجيا مع تدرجه هو أيضا فى إجراء عمليات التجميل التى اشتهر بها. بل هوى ذلك الإعجاب وتهاوى إلى أن وصل إلى مرحلة الاشمئزاز مع إجرائه لعملية تفتيح بشرته وتغيير لونه إلى اللون الأبيض. هنا توقفت عن متابعته إلى أن قادتنى قدماى إلى قاعة العرض لمشاهدة فيلم تسجيلى عنه، صدر بعد وفاته المفاجئة، بعنوان This is it أو بالعربى الدارج: انتهينا أو شطبنا. الفيلم هو عبارة عن كواليس بروفات برنامج حفلاته التى قررها هو بنفسه الأخيرة فى مشوار حياته. وربما لم يسعفه الوقت ولا العمر لأداء تلك الحفلات التى كان سيحضرها بضع مئات من الألوف من مريديه، ولكنه بالسماح بتصوير ذلك الفيلم أتاح للملايين من محبيه أن يستمتعوا وبحق به، بموسيقاه، بكلماته، بتوزيعاته الموسيقية وبرقصاته وحركاته وتحركاته على خشبة المسرح (أقول خشبة المسرح مجازا لأن ما شاهدته على مسرح مايكل جاكسون يفوق بكثير تواضع وضآلة كلمة خشبة). عادت لى دهشتى، وعاد انبهارى به وبفنه، بل تضاعف ذلك الإعجاب بعد مشاهدتى للفيلم إلى عشرات أضعاف ما كنت أكنه له من محبة فى فترة المراهقة. فالموهبة أراها بعينى وأسمعها بأذنى قوية متفجرة مجنونة. رهافة إحساسه بالنغمة والهمسة والحركة مذهلة. شاهدته يعدل تفصيلة صغيرة جدا فى أداء أحد عازفيه للحن فيصنع فارقا هو السماء للأرض. سمعته يجرب طبقات صوته فى أداء عدة نهايات لنفس الأغنية لاختيار واحدة وتعجبت من جمال ذلك الصوت، وكان إعجابى أشد عندما وجدته يعتذر لأعضاء فرقته عن ضرورة أن يدخر صوته للحفلات.. يا إلهى، هل مازال لديه طبقات أخرى أكثر جمالا من تلك التى سمعتها مازال يدخرها للحفلات؟ وكيف تكون إذاً هذه الطبقات؟ يتنقل بنا الفيلم بين كواليس بروفات العرض فيستعرض كيفية اختيار الراقصين ومدى كفاءتهم وليونتهم (تتداعى لى فجأة ذكريات كالكابوس عن استعراضات فوازير رمضان حتى بعد استيراد راقصات روسيات أشبه بالدمى). كما نرى ورش تصميم وتفصيل ملابس العرض سواء لنجمه الأول أو لراقصيه واندهش كم هى مبهرة ودقيقة ومصممة تبعا لاعتبارات أخرى عديدة كنوعية الإضاءة على المسرح وألوانها فى كل فقرة ومصادرها بل وطبيعة حركات كل رقصة لكل فقرة وبالتالى تصميم ما يناسب كل تلك المعطيات (تفاجئنى نفس الهلاوس وأتذكر ملابس المسلسلات الدينية والتاريخية فى القناة الأرضية وارتداء لممثلة محجبة زى كليوباترا واختيار ممثل آخر تقى ورع تظهر زبيبة الصلاة على جبينه لأداء شخصية العشيق أنطونيو). مصمم الإضاءة للعروض هو أقرب لعالم فيزياء يستحق جائزة نوبل عن أبحاثه فى علم الضوء واللون وتأثيره على الإنسان. ليس مجرد إبهار بل تفهم تام لطبيعة كل فقرة بأغانيها واستعراضاتها وتحركات البشر على المسرح بتوقيتاتها وإيحاءاتها. العازفون ومدى براعتهم فى العزف كل على آلته من ناحية والتناغم بينهم من ناحية أخرى. علاقتهم بالملك سواء الإنسانية أو المهنية، حبهم له، تقديرهم له ولفنه وموسيقاه. مخرج العرض، عظمته فى تواضعه، قوته فى ضعفه أمام نجمه. ضعف من نوع خاص لا يعرفه أو يفهمه مواطنو العالم الثالث مثلنا الذين اعتادوا الانحناء بل والانكفاء أمام النجم، أمام القوى، أمام صاحب السلطة.. ذلك هو الضعف الضعيف الذى اعتدناه فى عوالمنا. ولكننى علمت من ذلك المخرج (وهو بالمناسبة مخرج الفيلم نفسه) نوعا جديدا من الضعف هو الضعف القوى، الضعف الجبار. تجلى لى وهو يخاطب مايكل جاكسون ،النجم صاحب القوة والنفوذ، مستفسرا: «أنا انتظرك يا مايكل، أتشعر بالراحة مع تلك الحركة أم تريد منى أن أغيرها لك، قل لى ما يريحك وسأفعله فورا»... يقولها قوية، يقولها صريحة ومباشرة دون أدنى شعور بعقدة نقص أو مرض بسط نفوذ. يقولها، وهو المخرج صاحب قوة الكلمة العليا والقرار النهائى، ولكنه يعلم أن قوته تلك فى إنجاح العرض تكمن فى موهبة نجمه ورفاهة إحساسه بما يقدمه. فيقول عبارته تلك منتصبا كند وليس منكمشا متضائلا كتابع ذليل. يتبقى أهم ما استخلصته من مشاهدة الفيلم، وأهمس به لكل مطربينا وفنانينا، كيفية أن تكون مايكل جاكسون. كيفية أن تنجح نجاحه وتسطر سطور أسطورته. فرجاء.. لا تكتفوا بما عطاه الله لكم من موهبة فلا يد لكم فى ذلك، ولن يكمن سر النجاح الحقيقى فى الإصرار عليه والإخلاص الحقيقى للعمل بكل تفاصيله، عظمت كانت أو صغرت... الإخلاص لجوهر العمل ذاته وليس لنتائجه. أى أن تحب ما تقوم به من فن فتخلص لذلك الفن وتسعى لتحسينه ولاكتماله بجدية تامة دون أدنى حساب للنجاح أو المردود.. هنا فقط سيأتى النجاح ويأتى المردود من ذاته إليك راكعا تحت قدميك. فى الفيلم تابعت استعراضات أهم أغنيات جاكسون Thriller ،Beat it ، you are not alone I'll be there، Earth song، Billie Jean، Dangerous، Speachless، وكذلك رائعته They don't really care about us فسعدت لأننى أخيرا استطعت أن أتغلب على مشاعر الغضب من العظيمة «حمدية حمدى» وأن أحبه من جديد.. خاصة بعد الرحيل. أترككم لقراءة أسماء أغانيه تلك من جديد والسباحة مع نغماتها وكلماتها التى لا أشك أنكم تستحضرونها الآن رغما عنكم... مثلى تماما.