ما أشبه الليلة بالبارحة..فسؤال مصر إلى أين أو إلى ماذا..وكيف؟ الذى يشغل الآن قطاعات واسعة نخبوية أولا وشعبية ثانيا قبيل أشهر، أضحت معدودة، من استحقاقات الانتخابات الرئاسية القادمة فى عام2011، يكاد يكون هو ذات السؤال الذى فرض نفسه فى الأشهر الأخيرة من عام 2004 قبيل موعد استحقاقات الانتخابات الرئاسية عام 2005. فسؤال مصر إلى أين..وكيف فرض نفسه على قطاعات نخبوية وشعبية عام 2004 لكنه لم يجد إجابة كاشفة ودقيقة لحقيقة الواقع ومعالم المستقبل، وظلت الأفكار واللقاءات تتجمع ثم تنفض دون أى أداء تراكمى فعلى حتى كان ذلك اللقاء الذى جمع ما لا يقل عن 35 شخصية مصرية من جميع الاتجاهات والانتماءات الوطنية على مائدة إفطار رمضانى بمنزل المهندس أبو العلا ماضى، وطرح السؤال ذاته مجددا، ورغم أن معظم ما عرض من أفكار لم يتجاوز كل ما كان شائعا ومتداولا فى لقاءات وتجمعات أخرى كثيرة مشابهة. فإن الجديد الذى أسفر عنه هذا الإفطار الرمضانى كانت الفكرة اللامعة للمرحوم الدكتور عبدالوهاب المسيرى، الذى أوصى باختيار عدد محدود من الأشخاص المشاركين فى ذلك الحوار وحبذا لو كانوا من الذين قدموا أفكارا متكاملة ومميزة وأن يمثلوا التيارات الوطنية الرئيسية الأربعة: التيار القومى والتيار اليسارى والتيار الإسلامى والتيار الليبرالى، وأن يواصل هؤلاء الحوار إلى أن يتوصلوا إلى رؤية فكرية وحركية متكاملة، وبعدها يطالبون بعقد لقاء موسع لمناقشة هذه الرؤية وطرحها مباشرة على الرأى العام. من هنا بالتحديد كانت بداية الحركة المصرية من أجل التغيير «كفاية» التى اختارت شعارا لها يتضمن إجابة شديدة الإيجاز وعميقة الدلالة لسؤال مصر إلى أين؟ وهو: «لا للتمديد..لا للتوريث» وكان هذا الشعار له معنى واحد ومحدد هو أن التغيير هو طريق الإنقاذ. ولقد طرحت الحركة ورقة فكرية مفصلة تحدثت فيها عن ماهية هذا التغيير وأهدافه وكيفية تحقيقه حملت عنوان: «مصر التى نريد..نحو عقد اجتماعى سياسى جديد لبناء مجتمع العدل والحرية». فى هذه الورقة أوضحت حركة «كفاية» أن ما تحتاج إليه مصر ليس مجرد التغيير فى الأشخاص، ولكن التغيير فى المؤسسات والسياسات،أى أن مصر فى حاجة إلى نظام سياسى ديمقراطى جديد يحقق العدل الشامل (السياسى والاقتصادى والاجتماعى والقانونى)،ويحقق الحرية الكاملة (للأشخاص وللمجتمع وللوطن). الطموح إلى هذا التغيير كان يفرض إدراك استبعاد تحقيقه عبر النظام القائم أو عبر سياساته، وهو المسئول عن كل الأوضاع التى باتت تفرض القيام بهذا التغيير. ومثل هذا التغيير كان يتطلب عملا جماعيا إذ من المستحيل أن يقوم به تيار سياسى واحد بعينه مهما كانت تقديراته لنفسه، فالمسئولية هائلة وشاقة، ولكن تقدر عليه حركة وطنية شاملة تجمع كل التيارات السياسية صاحبة المصلحة فى التغيير فى «ائتلاف وطنى شامل» يكون فى مقدوره إنجاز هذا التغيير عبر آليات ديمقراطية حقيقية، تبدأ بتحديد مرحلة انتقالية ينتخب فيها رئيس مؤقت لمدة عامين أو ثلاثة مشهود له بالوطنية والنزاهة يقوم بتشكيل حكومة وحدة وطنية تدير الشئون التنفيذية للدولة، ولكن تكون مهمتها الأساسية هى انتخاب جمعية تأسيسية لوضع دستور وطنى ديمقراطى يتضمن كل الحقوق السياسية والديمقراطية، وبعد الاستفتاء على هذا الدستور تشرف الحكومة على انتخاب الرئيس الجديد والبرلمان الجديد وتسلم السلطة لمن اختارهم الشعب للحكم. هذه الرؤية الديمقراطية للتغيير التى تؤمِّن الانتقال السلمى للسلطة اهتمت بأن تكون الفترة الانتقالية مرحلة إعداد وتهيئة للتحول الديمقراطى القادم من خلال تكليف الحكومة الانتقالية والرئيس الانتقالى بمهام عديدة وأساسية وخاصة فى مجال ضبط الوضع القانونى والقضائى فى مصر وإطلاق الحريات العامة والحقوق الأساسية للأفراد والجماعات والتى بدونها يصعب إحداث هذا التحول الديمقراطى فى تلك المرحلة الانتقالية باعتباره الأساس لبناء المجتمع الديمقراطى الجديد. كان من بين هذه المهام المطلوبة خلال الفترة الانتقالية إلغاء حالة الطوارئ وقانونها، وإلغاء كل التشريعات الاستثنائية وجميع صور القضاء الاستثنائى (كالمحاكم العسكرية)،وضرورة أن يتمتع المواطن بحق المحاكمة أمام قاضيه الطبيعى، وأن يكفل للقضاء استقلاله الكامل عن تدخلات السلطة التنفيذية (ممثلة فى وزارة العدل والتفتيش القضائى)، وإصدار قانون الهيئة القضائية الذى يؤمِّن لها استقلاليتها وأداء دورها الوطنى ومن ضمنه الإشراف الكامل على كل العمليات الانتخابية التى تجرى فى مصر. وعلى صعيد الحريات طالبت الحركة بإطلاق حرية الصحافة تأسيسا وإصدارا وتحريرا، ورفع قيود التخويف عن الصحافة والصحفيين وإلغاء الحبس فى قضايا النشر، وإطلاق حرية الاجتماع والتظاهر السلمى والإضراب والاعتصام السلمى، وحرية تشكيل الأحزاب والجمعيات النقابية والأهلية ومنظمات المجتمع المدنى، وإرساء قاعدة المواطنة والمساواة بين المواطنين من دون تمييز ودون إقصاء لأى قوة أو تيار سياسى، وإصلاح العملية الانتخابية، بكفالة إشراف الهيئات القضائية على جميع العملية الانتخابية بكل مراحلها ابتداء من عملية اعتماد الجداول الانتخابية بعد مراجعتها وانتهاء بإعلان النتائج، وقبل هذا كله نزع سطوة الأجهزة الأمنية على العمليات الانتخابية، وتمكين المواطن من الإدلاء بصوته بحرية كاملة دون تهديد أو إجبار أو اعتداء بما يؤمِّن المشاركة الشعبية لكل المواطنين. وللحقيقة وللتاريخ كانت حركة «كفاية» حريصة على القيام بثلاث مهام عاجلة وضرورية من منطلق التفاعل مع الأحداث بعد أن جرت عملية التعديل القسرية للدستور وتحددت مواعيد انتخابات مجلس الشعب ورئيس الجمهورية هى أولا: تأسيس ائتلاف وطنى شامل يتولى مسئولية ومهمة إحداث التغيير. وثانيا: خوض انتخابات مجلس الشعب بقائمة وطنية موحدة تولت «الجبهة الوطنية للتغيير» بزعامة المرحوم الدكتور عزيز صدقى التفاوض حولها مع جميع الأحزاب وجماعة الإخوان المسلمين، لكن المهمة أجهضت بسبب رفض الجماعة للفكرة تحت دعوى أنها اختارت قائمتها وشعارها. أما المهمة الثالثة: فكانت خوض انتخابات الرئاسة بمرشح واحد، وجرى التفاوض مع شخص بعينه كان من أبزر المرشحين وزعيما لحزب عريق أن يكون هو مرشح الجماعة الوطنية، شرط أن يعلن أنه سيكون مرشحا رئيسا للفترة الانتقالية التى لا تزيد على سنوات ثلاث وأن يخوض المعركة الانتخابية ومعه ثلاثة نواب من التيارات الأخرى: قومى ويسارى وإسلامى، لكنه رفض وأجهضت التجربة. كل هذا حدث فى الأشهر التى سبقت انتخابات رئاسة الجمهورية السابقة لكن لم يحدث التغيير وجرى التمديد للرئيس. الآن يتجدد السؤال وتتعدد الاجتهادات التى من أبرزها الاجتهاد الذى تقدم به الأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل، وفى اعتقادى أن أى محاولة جديدة للبحث عن إجابة جديدة للسؤال ذاته: مصر إلى أين..وكيف؟ لن يكتب لها النجاح دون استخلاص الدروس المستفادة من تجربة الحركة الوطنية عامى 2004 2005. من أهم هذه الدروس درسان أساسيان أولهما، أن التغيير أو حتى الإصلاح سيظل أمرا مرفوضا من النظام الذى كان وسيظل حريصا على احتكار السلطة لأسباب كثيرة يدركها الجميع. نظرة سريعة لردود فعل النظام ورجاله وكتابه على اقتراح الأستاذ هيكل الذى يصلح عليه وصف «اقتراح الحد الأدنى» كافية لتأكيد هذه الحقيقة. وثانيهما، أن التغيير لن يحدثه إلا حركة وطنية شاملة تجمع كل التيارات وكل الأحزاب والنقابات تربط النخبة بالجماهير، وأن أى تشتت أو انقسام فى صفوف النخبة، وأى غياب أو عزوف للجماهير سيحول دون إحداث التغيير المطلوب الذى يجب أن يبقى سلميا وديمقراطيا وأن يكون حريصا على سلامة الوطن وأمن المواطنين. لقد كشف الهجوم الضارى على اقتراح أو مبادرة الأستاذ هيكل لتأسيس ما سماه ب«مجلس أمناء الدولة والدستور» تكون مهمته، عبر فترة انتقالية مدتها ثلاث سنوات، إعادة بناء الدولة عبر وضع دستور جديد، إن النظام لن يقبل، تحت أى ظرف، إلا بحدوث ما خطط له عندما قام بتعديل المادة76من الدستور على النحو الذى جرى عام 2005 وهو أن الرئيس القادم هو مرشح الحزب الوطنى دون غيره، وأن النظام يرى فى أى بديل آخر خطرا على الاستقرار والأمن الوطنى، كما يرى أن الاستمرار هو الضامن للاستقرار، وغير ذلك لن يكون إلا الفوضى. وعلى الرغم من كل ما يجرى الآن من محاولات لإجهاض هذا الاقتراح وتشويهه والنيل من صاحبه فإنه حقق ثلاثة مكاسب مهمة يجب أن تمسك بها الجماعة الوطنية وتسعى إلى تطويرها: أولها، أنه الاقتراح أو المبادرة كسر حاجز المستحيل الخاص بالسؤال التعجيزى الذى جرى الترويج له على مدى سنوات طويلة ماضية وهو سؤال: من البديل؟ حيث قدم العشرات من الأسماء التى يصلح كل منها رئيسا وارتأى أن تقوم جميعها بدور «مجلس أمناء الدولة والدستور» لإحداث التغيير والإشراف على حدوثه على مدى ثلاث سنوات، وبهذه الإجابة حسم هيكل أو تجاوز الخيارات الثلاثة الخبيثة المرفوضة: «إما جمال وإما الإخوان وإما الفوضى» التى كان هدفها ترويع الناس للقبول بالبديل الوحيد المعروض من الحزب الوطنى. ثانيها، إنه اقتراح حرص على تأمين مصالح ودور القوى الأساسية فى مصر: الجيش ورجال الأعمال من خلال التأكيد على وجودهم فى قلب عملية التغيير المطلوبة، فى محاولة لخلق إجماع وطنى ومصالح مشتركة فى التغيير وهذا أمر يجب الوعى به وتطويره. ثالثها، أن الاقتراح وضع النظام أمام الموقف الصعب وكشف مدى تشبثه بالسلطة واحتكارها، ووضع كل قوى المعارضة المترددة أمام الحقيقة ناصعة وهى أن التغيير لن يحدثه النظام لأنه ليس من اختياراته أو من أولوياته، ولكن كل القوى الوطنية هى المعنية بإحداثه. هذه النتائج الثلاث أرى أن الوعى بها ضرورى كى ينعقد العزم على خيار التغيير، الذى يجب أن تتوحد حوله كل القوى والتيارات الوطنية فى شكل «مؤتمر وطنى» أو «ائتلاف جامع» يأخذ فى اعتباره كل المبادرات المطروحة على الساحة الآن، ويبلور منها برنامجه ومشروعه الوطنى للتغيير واضعا مصلحة الوطن فوق كل اعتبار، وينطلق به نحو مستقبل واعد يحقق لأبناء مصر كل الطموح والإشباع السياسى والاقتصادى والاجتماعى والوطنى الذين ظلوا محرومين منه ويأملون فيه على مدى سنوات طويلة مضت.