عانى كثيرا من الرقابة.. و«الكرنك» و«الحب تحت المطر» ظهرتا بصورة ناقصة عن الأصل الذى كتبه.. الأهرام رفضت «المرايا» فنشرها رجاء النقاش فى مجلة الإذاعة والتليفزيون.. قال للنقاش: «أنا مش بتاع سلطة».. لكنى لم أكن نائما فى العسل.. أدباء يطالبون بوقف نشر «أولاد حارتنا».. وهيكل يدافع عنه ويصمم على نشرها كاملة.. الأديب الكبير نجيب محفوظ، التى تحل ذكرى رحيله غدا 30 أغسطس، كان يرفض بإصرار غريب أن يكتب سيرته الذاتية، وكان يرد: «فكرة السيرة الذاتية تراودنى من حين لآخر، أحيانا تراودنى كسيرة ذاتية بحتة، وأخرى تراودنى كسيرة ذاتية روائية، ولكن الالتزام بالحقيقة مطلب خطير ومغامرة جنونية، وبخاصة أننى عايشت فترة انتقال طويلة تخلخلت فيها القيم وغلب الزيف وانقسم فيها كل فرد إلى اثنين»، لكن الكاتب الكبير رجاء النقاش (1934 2008) نجح فى إقناع محفوظ بأن يحكى له سيرته بدلا من كتابتها، والتى ظهرت فى كتاب مهم بعنوان «صفحات من مذكرات نجيب محفوظ» عن دار الشروق، بعد نقاش بينهما استمر 18 شهرا فى مقهى «على بابا» المطل على ميدان التحرير. المذكرات تحتوى على أمور كثيرة توضح عالم نجيب محفوظ وهمومه ومسار كتاباته، والتى من الصعب أن تحتملها صفحة من جريدة، ولا صفحات الجريدة كلها، لذلك سأختار هنا فى السطور التالية أجزاء من تلك المذكرات، تشكل أسئلة بلا أجوبة حقيقية، أو بالأحرى الأجوبة مدفونة فى دار الوثائق القومية أو الأرشيف بوزارة الشباب أو غيرها من الهيئات التى يبدو أنها لا تعلم أنها تملك «كنزا أدبيا». سأبدأ هنا مع فصله «متاعبى مع السلطة»؛ حيث أكد محفوظ أن أغلب معاناته كانت مع إدارة الأهرام؛ حيث رفض الأستاذ هيكل نشر رواية «المرايا» فنشرها رجاء النقاش فى مجلة الإذاعة والتليفزيون حيث كان رئيسا للتحرير، واستأذن وقتها الأستاذ محمد فائق، وزير الإعلام، فى نشر الرواية فأذن له، وتم نشر الرواية من أول مايو سنة 1971، كما رفض الأستاذ أحمد بهاء الدين عندما كان رئيسا لتحرير الأهرام نشر رواية «الحب تحت المطر» فنشرها أيضا رجاء النقاش فى مجلة الشباب (التى كانت تصدر عن وزارة الشباب عندما كان وزيرها الأستاذ أحمد كمال أبو المجد وكان فى أواخر سنة 1972، وليست مجلة الشباب التابعة لمؤسسة الأهرام)، بعد أن حذفت منها الرقابة أشياء كثيرة، وقد بحثنا تكرارا ومرارا عن تلك الرواية فى دار الوثائق القومية، ولم نجد لها أثرا، ووزارة الشباب لا تعلم عنها شىء، ومسئول الأرشيف لا يعرف مجلة الشباب التى كانت تصدر عن الوزارة!. أما رواية «الكرنك» فقد كانت أكثر الروايات التى عانيت فى نشرها»، هكذا يؤكد محفوظ، قائلا: «قدمتها إلى الأستاذ محمد حسنين هيكل، وبعد أن قرأها ظن أنها هجوم مباشر على عهد عبدالناصر، فحمل أصول الرواية، وذهب إلى مكتب توفيق الحكيم يشكونى إليه، وقد حكى لى الحكيم استنكار هيكل لما جاء فى الرواية وقال له: «يرضيك كده.. خد شوف نجيب باعت لى إية؟!». أما قصة الرقابة مع «الكرنك»، فكانت هكذا حسب رواية محفوظ للنقاش: «كنت أجلس فى مقهى ريش عندما سمعت أخبار المعتقلات والقصص التى تروى عما حدث للمعتقلين السياسيين فى سجون عبدالناصر، وقد تألمت كثيرا مما سمعت، وقلت فى نفسى إن الكتابة عن هذا الموضوع مغامرة، وأغلب الكتاب سيجدون رهبة وخوفا من إثارته حتى لا يتعرضوا للأذى، فلماذا لا أكتب أنا عنه؟ إننى لم أعش تجربة الاعتقال ولا أعرف تفاصيلها، ولكننى اقتنعت بإمكانية سرد الأحداث على لسان الراوى، وعندما انتهيت من كتابة «الكرنك» قدمتها إلى عبدالحميد جودة السحار لإصدارها من مكتبة مصر، وكان الأسلوب المتبع فى ذلك الحين أن تقوم دار النشر بجمع الرواية وإرسالها إلى الرقابة، وكان الرقيب آنذاك هو طلعت خالد، وكان يداوم الاتصال بى تليفونيا بصفة شبه يومية ليطلب حذف فقرة أو تغيير جملة أو يبدى اعتراضا على رأى معين، وهكذا إلى أن تم طبع الرواية، فاكتشفت أنه تم تشويهها، وأن الأصل مختلف تماما عن النسخة التى طبعت وظهرت فى المكتبات، واعترضت وطلبت من السحار وقف عملية النشر، ولكنه أقنعنى أن الوقف معناه خسارة مادية كبيرة له». وقال محفوظ إنه سلم أمره إلى الله ووافق على ظهورها بهذا الشكل المشوه، إذن الروايتان «الكرنك»، و«الحب تحت المطر» هما العملان الروائيان الوحيدان اللذان ظهرا بهذه الصورة الناقصة؛ حيث يختلف الأصل إلى حد ما عن الصورة التى ظهرت للناس، وتأسف محفوظ حيث إنه لا يملك أصول الروايتين لكى يعيد نشرهما كاملتين من جديد. والمدهش أن محفوظ يقرر فى حواره مع النقاش أنه أحس أنه لم يكن هناك داع لكتابة رواية «الكرنك» أصلا، خاصة أنها لم تكن فى خطته الأدبية، لكن ما دفعه لكتابتها هو التعاطف مع الشبان الذين تعرضوا للتعذيب أثناء اعتقالهم. ورغم أن محفوظ لم يدخل معتقلات عبدالناصر أو السادات، بسبب الانتقادات الصريحة التى كان يوجهها عن طريق رواياته إلا أنه لم يكن بعيدا عن المخاطر أو «نائما فى العسل» حسب وصف محفوظ للنقاش، ففى مرات كثيرة كاد يتعرض لمشاكل جدية تحد من حريته الأدبية والشخصية معا، أولى هذه المرات كانت بسبب قصة قصيرة نشرها محفوظ فى الأهرام بعنوان «سائق القطار»، وبعد النشر سرى همس فى أوساط المثقفين، بأنه كان يقصد عبدالناصر، والقصة تدور حول سائق قطار يفقد صوابه، ويتسبب فى حادث تصادم مروع، وكان التفسير السائد أن محفوظ يشير إلى أن عبدالناصر يقود مصر إلى كارثة، لكن أنقذه من ورطة الاعتقال مقال كتبه محمد فريد أبو حديد رئيس تحرير مجلة الثقافة ولم يكن بينه وبين محفوظ سابق معرفة توصل فيه إلى أن القصة ترمز للصراع بين الشرق والغرب. وفى الفصل الذى يحمل عنوان «أولاد حارتنا.. رواية وأزمة»، يحكى محفوظ قصة انقطاعه عن الكتابة لمدة 5 سنوات متصلة بعد ثورة يوليو، وكيف قرر احتراف كتابة السيناريو؛ حيث ظن أنه انتهى كأديب، إلا أن رواية «أولاد حارتنا» تعيده مرة أخرى للكتابة؛ حيث كانت كل الأفكار المسيطرة عليه فى ذلك الوقت تميل ناحية الدين والتصوف والفلسفة، ويشرح محفوظ من أين بدأت أزمة الرواية: «بدأت جريدة الأهرام فى نشر الرواية، ومرت حلقاتها الأولى دون أن تظهر أى ملاحظات عليها، ولكن الأزمة بدأت بعد أن نشرت جريدة الجمهورية خبرا يلفت فيه كاتبه النظر إلى أن الرواية فيها تعريض بالأنبياء، بعد هذا الخبر المثير، بدأ البعض، ومن بينهم أدباء للأسف، فى إرسال عرائض وشكاوى إلى النيابة العامة ومشيخة الأزهر، بل وإلى رئاسة الجمهورية، يطالبون فيها بوقف نشر الرواية وتقديمى إلى المحاكمة». وأضاف محفوظ: «وخدع رجال الأزهر فى هذه الأزمة، لأنهم لم يحسنوا قراءة الرواية وفهمها، بل إن بعضهم لم يقرأ رواية أدبية من قبل، ومن هنا فسروا رواية «أولاد حارتنا» تفسيرا دينيا، ورأوا أن شخصية أدهم فى الرواية ترمز إلى آدم، وشخصية جبل هى موسى، وشخصية رفاعة هى شخصية المسيح، أما شخصية قاسم فهى شخصية محمد عليه الصلاة والسلام، لكن دافع عن الرواية الأستاذ محمد حسنين هيكل، ولولاه لكان توقف نشرها فى الأهرام».