رغم أن العالم لا يزال يعانى من آثار الأزمة المالية والاقتصادية، التى فجرتها ممارسات الحرية المصرفية، والافتقار إلى الضوابط فى بعض جوانب القطاع المالى، ورغم أن تدخل الدولة على وجه التحديد من خلال مساندتها للقطاع المالى أو ضخ إنفاق استثمارى قد حد من تداعيات تلك الأزمة فى دول العالم المختلفة، فإن التقارير الصادرة عن بعض المؤسسات الدولية ما زالت تطالب دولا مثل مصر بالمزيد من الحرية الاقتصادية والتقليص لدور الدولة، كسبيل للتقدم. فقد نظم مركز معلومات مجلس الوزراء فى منتصف أكتوبر الجارى ورشة عمل بعنوان «الحرية الاقتصادية فى مصر.. الواقع والمستقبل»، وذلك بالتعاون مع كل من معهد فريزر الكندى ومعهد كاتو الأمريكى. وتم توجيه الدعوة لعدد كبير من الاقتصاديين المصريين للمشاركة فى تلك الورشة، التى تحددت أهدافها فى مناقشة الوضع الراهن للحرية الاقتصادية فى مصر وإعداد تقرير نهائى يتضمن تقديم توصيات لصانعى القرار. وتبين خلال الجلسة الافتتاحية أن المناقشات والتوصيات تتعلق فى واقع الأمر بترتيب مصر فى تقرير «الحرية الاقتصادية فى العالم»، الذى يصدره معهد فريزر الكندى. وقد بدا واضحا منذ اللحظة الأولى أن التقرير يقوم على مبدأين، أولهما أن الحرية الاقتصادية المطلقة هى السبيل للتقدم والرخاء الاقتصادى، وثانيهما أن تدخل الدولة فى الحياة الاقتصادية هو شر فى ذاته. فدور الدولة يجب أن يقتصر فقط على تأمين حرية التملك والتصرف فى الملكية، باعتبار أن هذا هو جوهر الحرية الاقتصادية. ومما لاشك فيه أن الترويج لمفهوم الحرية الاقتصادية المطلقة على هذا النحو قد جاء صادما ومثيرا لدهشة الاقتصاديين المشاركين على اختلاف مدارسهم الفكرية وتوجهاتهم السياسية. فالعالم لا يزال يعانى من آثار الأزمة المالية والاقتصادية، التى فجرتها ممارسات الحرية المصرفية المطلقة، كما أن تدخل الدولة على وجه التحديد مثل شبكة الإنقاذ الرئيسية للحد من تداعيات تلك الأزمة فى دول العالم المختلفة. إلا أن تفاصيل التقرير كانت تحوى فى واقع الأمر قدرا أكبر من الاستفزاز، سواء تعلق الأمر بطبيعة المؤشرات المستخدمة أو التوصيات التى يمكن استنباطها من تلك المؤشرات. مؤشرات قياس درجة الحرية الاقتصادية يقوم التقرير بقياس وتقييم درجة الحرية الاقتصادية فى الدولة استنادا إلى خمسة محاور رئيسية: 1 حجم الحكومة: فكلما كان حجم الإنفاق الحكومى الجارى والاستثمارى كبيرا كان هذا مؤشرا سلبيا باعتباره دليلا على تدخل الدولة فى النشاط الاقتصادى. 2 النظام القانونى وحماية حق الملكية: فكلما كان النظام القانونى والقضائى يفتقر إلى الكفاءة وسرعة البت فى القضايا المتعلقة بحرية التملك وحماية حق الملكية كلما كان هذا مؤشرا سلبيا. 3 استقرار قيمة العملة المحلية: حيث إن انخفاض واستقرار معدلات التضخم من ناحية واستقرار سعر الصرف من ناحية أخرى يعدان شرطا لحماية الملكية من التآكل. 4 حرية التبادل التجارى (البيع والشراء وإبرام العقود.. إلخ) مع العالم الخارجى. 5 الضوابط المنظمة للائتمان والعمالة ومناخ الأعمال: فكلما تزايدت تلك الضوابط كان هذا مؤشرا سلبيا. التقييم الممنوح لمصر والإجراءات المطلوبة يرى التقرير أن مصر حققت انجازا كبيرا على طريق الحرية الاقتصادية، إلا أنه لا يزال هناك الكثير من الجهد المطلوب لزيادة درجة تلك الحرية، لذلك فهو يدعو الحكومة إلى عدد من الإجراءات تتضمن رفع كفاءة النظام القانونى والقضائى فيما يتعلق بحماية حقوق الملكية والقدرة على تنفيذ الأحكام، والمواجهة الفعالة لمشكلة التضخم، وتحسين مناخ الأعمال ومواجهة العراقيل البيروقراطية والرشوة فيما يتعلق باستخراج التراخيص وبدء ممارسة العمل لاسيما فيما يتعلق بالمشروعات الصغيرة. إلا أنه بالإضافة إلى تلك الإجراءات، التى لاقت قبولا عاما من المشاركين فى ورشة العمل، دعا التقرير أيضا إلى ما يلى: تخفيض الإنفاق على كل من الدعم والاستثمار العام كنسبة من الناتج المحلى، وتنشيط برنامج الخصخصة، وذلك كوسيلة لتخفيض حجم التدخل الحكومى فى النشاط الاقتصادى (علما بأن مؤشرات التقرير توضح أن تدخل الدولة فى النشاط الاقتصادى فى مصر أقل المتوسط العالمى). خفض معدلات التعريفة الجمركية والتباين بين مستوياتها كوسيلة لزيادة حرية التبادل التجارى مع العالم الخارجى (علما بأن مؤشرات التقرير توضح أن مستوى تلك الحرية فى مصر يماثل المتوسط العالمى). تخفيض نسبة الملكية العامة فى الجهاز المصرفى والسماح بزيادة وجود البنوك الأجنبية (علما بأن البنوك الأجنبية تمثل حاليا ما لا يقل عن 35% من أصول الجهاز المصرفى المصرى). إلغاء القيود القانونية على حرية صاحب العمل فى الاستغناء عن العمالة، وتخفيض حصة صاحب العمل فى التأمينات الاجتماعية على العاملين وتعويضات الفصل من العمل. ويعنى هذا أن المطروح علينا خلال المرحة القادمة هو فى كلمة واحدة المزيد من انحسار دور الدولة، وإطلاق حرية رجال الأعمال فى مواجهة كل من العامل والمستهلك. إلا أن الجلسة الختامية لورشة العمل قد أوضحت بما لا يدع مجالا للشك عدم تقبل المشاركين، على تباين اتجاهاتهم الفكرية، لتلك الإجراءات المقترحة، سواء كان موقفهم هو الرفض الصريح أو إبداء التحفظ كحد أدنى. فقد أكدت التقارير التى أعدها المشاركون على رفض مفهوم الحرية الاقتصادية المطلقة، وأشارت إلى أن تجربة دول جنوب شرق آسيا توضح أنه لا يوجد تناقض حتمى بين دور الدولة ودور السوق. فالدولة لها دور فى إعادة توزيع الدخل (ومن هنا أهمية الدعم من ناحية والضرائب التصاعدية على الدخول من ناحية أخرى)، كما أنه لابد من دولة قوية لتقوم بالاستثمار فى المرافق والتعليم والإسكان والصحة فى الأقاليم وتوفير الحوافز على الاستثمار فى تلك المناطق. كما أكدت تقارير المشاركين أن مصر قد قطعت شوطا كبيرا بالفعل فى تحرير التجارة الخارجية خلال الفترة 2000 2006 دون أن يرتبط هذا بالضرورة بزيادة معدلات التراكم الرأسمالى. لذا فإن الموقف من حرية التجارة يتمثل فى أنه من حيث المبدأ لا يمكن الانعزال عن العالم إلا أنه لا يمكن القفز مباشرة إلى حرية التجارة دون تصحيح الهياكل الإنتاجية ودون سياسة وطنية للبحث والتطوير. وأوضح المشاركون أن تنافسية الجهاز المصرفى المصرى لا ترتبط بالضرورة بزيادة نصيب البنوك الأجنبية، لاسيما وأن تلك البنوك تستحوذ بالفعل على ما لا يقل عن 35% من جملة النشاط المصرفى، وأن المطلوب هو تدعيم قدرة البنوك على تمويل المشروعات الصغيرة والمتوسطة. أما فيما يتعلق بالإجراءات المقترحة فى شأن سوق العمل فقد أكد المشاركون أن تنظيم تلك السوق يجب أن يحقق التوازن بين جميع الأطراف ذات المصلحة: صاحب العمل، والعامل، والمستهلك. لذا فإن حرية صاحب العمل فى الاستغناء عن العمالة يجب أن يسبقها وجود حد أدنى عادل للأجور ونقابات مستقلة قوية قادرة على إدارة التفاوض الجماعى ونظام للتأمين ضد البطالة، وجميعها شروط لا تتوافر فى سوق العمل المصرية. مرة أخرى تتأكد أهمية التعامل الحذر مع التقارير الدولية الصادرة عن مؤسسات تتبنى مفاهيم للحرية الاقتصادية أسفرت على أرض الواقع عن أزمة مالية واقتصادية عالمية لا يزال العالم يعانى من تداعياتها. وتمثل تلك التقارير نظرة غير واقعية للمجتمع والوضع الاقتصادى المصرى وتهمل أى مظهر للعدالة فى توزيع الناتج بل تكرس لمزيد من تركز الثروة واختلال موازين القوى لصالح أصحاب الأعمال على حساب القاعدة العريضة من العاملين والمستهلكين.