قضى الفنان الأسبانى بابلو بيكاسو ( 18811973 ) كل حياته الفنية الثرية والمديدة باحثا فى لغة التشكيل البصرى.. وعبر فى أثناء بحثه الدئوب آفاقا جديدة بعبقريته الفذة وشخصيته المتوهجة.. فتنقل بسرعة وسلاسة بين أساليب وأنماط عدة كأن عفريتا من الجن قد تلبسه أو كأنه رهط من الفنانين الأفذاذ يسكنون جسدا واحدا.. من التنقيطية وما بعد التأثيرية والتعبيرية إلى الكلاسيكية الحديثة إلى التكعيبية التحليلية والتركيبية والسيريالية أيضا.. ولكنه برغم من أن الزمن الذى عايشه رأى أحداثا جسام.. حربان عالميتان وتقلبات اجتماعية وسياسية واقتصادية إلا أنه لم يتخذ فى أعماله موقفا سياسيا أو اجتماعيا.. فكانت رسومه فى مجملها عن عالمه الذاتى.. ويستثنى من هذا عملان الأول هو الجورنيكا التى رسمها عام 1937 بعد سحق مدينة جورنيكا الأسبانية بواسطة قاذفات النازى المساندة لقوات فرانكو فى الحرب الأهلية الأسبانية و«مذبحة فى كوريا» والتى رسمها عام 1951 احتجاجا على ممارسات القوات الأمريكية الوحشية ضد المدنيين فى حرب كوريا. كان بيكاسو فى عام 1937 يعيش فى باريس التى كانت ترزح تحت حكم القوات الألمانية المحتلة وقد رفض أن يغادرها بعد دخول القوات الغازية مثل العديد من أقرانه.. وكانت الحرب الأهلية الأسبانية تدور رحاها بين مجموعات الجمهوريين الذين يريدون أسبانيا جمهورية وقوات فرانكو التى تريدها ملكية.. وكان بيكاسو مؤيدا للجمهوريين الذين كلفوه بتنفيذ عمل يعرض فى جناح أسبانيا فى معرض باريس الدولى الذى كان سيقام فى هذا العام.. ولم يكن بيكاسو متحمسا لهذا العمل ولكنه قبل المهمة بإلحاح من عشيقته فى هذا الوقت دورا مار التى كانت ناشطة يسارية وشاعرة ومصورة وسجلت بكاميرتها مراحل تنفيذ العمل. لم يكن بيكاسو قد قرر موضوع لوحة المعرض حتى حدثت مذبحة الجورنيكا فى ابريل وقرأ بيكاسو عن فظاعة الحدث فى الجرائد وعندها قرر أن يكون عمل جناح أسبانيا لوحة صرحية عن هذه المذبحة وقال «ان كل حياتى كفنان كانت ليست اكثر من كفاح ضد الرجعية والموات فى الفن.. فى اللوحة التى سأرسمها والتى سأطلق عليها جورنيكا.. سأعبر عن فزعى من الزمرة العسكرية التى أغرقت أسبانيا فى بحر من البؤس والموت». رسم بيكاسو للجورنيكا كما كبيرا من الدراسات قبل أن يبدأ فى العمل على اللوحة الصرحية التى لم تضاهها أى لوحة أخرى أنجزها فى أبعادها التى تبلغ حوالى ثمانية أمتار طولا وثلاثة أمتار ونصف المتر ارتفاعا.. وقد رسمها باللونين الأبيض والأسود فقط ربما تعبيرا عن التضاد بين قوى الخير والشر أو ليحاكى الصور المنشورة فى الجرائد والتى أصبحت تمثل الوسيلة الرئيسية لنقل الأحداث والتى عن طريقها رأى بيكاسو الحدث.. ويعزز هذا استخدام بيكاسو لخطوط رأسية متقطعة فى جسد الحصان ليحاكى بها المتن فى صفحات الجرائد. أكثر ما يدهش المشاهد عند رؤية الجورنيكا هو هذا الكم من الحركة والطاقة التى يموج بها سطح اللوحة.. فالعين تدور فى اللوحة من يمينها إلى يسارها لا تستطيع الاستقرار ولا استيعاب معنى هذه العناصر غير المترابطة.. ربما تجذبها لوهلة نقطة المنتصف حيث تدوى صرخة الحصان الجريح ولكنها تعاود تجوالها تلهث منتقلة من عنصر إلى آخر.. وقد صمم بيكاسو لوحته على غرار اللوحات الثلاثية «التريبتيك».. التى تعلو المذبح فى الكنيسة والتى تصور مشاهد صلب المسيح.. الجزء الأيمن يحتوى الشخص المذعور الذى يرفع ذراعيه فى الهواء تحت المبنى المحترق.. والجزء الأيسر يحتوى الثور والمرأة النائحة على طفلها الميت بين يديها مثل بييتا مايكل أنجلو.. أما الجزء الأوسط فيحتوى المشهد الرئيسى الحصان المجروح ووميض انفجار قنبلة فى الأعلى مثل عين فى السماء.. والمرأة التى تطل من النافذة تمد يدها بشمعة مثل الباحثة عن الحقيقة.. والمرأة الراكعة شاخصة ببصرها إلى أعلى مثل شخوص مشاهد الصلب.. والمحارب الميت ذو السيف المكسور والذى يحاكى جسد المسيح المصلوب.. ويربط بيكاسو بين هذه الأجزاء الثلاثة بهذا المثلث الهائل التى تتكون قاعدته من خط يمر من ساق المرأة الراكعة فى أقصى اليمين إلى يد المحارب المبسوطة فى أقصى اليسار وتعلو قمته يد المرأة القابضة على الشمعة. يستعمل بيكاسو ببراعة عناصر الفن التكعيبى.. فالإيحاء بالعمق لا يعتمد على وجود منظور.. وتوجد أجزاء توحى بمنظر داخلى مثل المنضدة يسار رأس الحصان والتى ترقد عليها حمامة مذبوحة.. وأجزاء أخرى توحى بمنظر خارجى مثل المرأة حاملة الشمعة التى تطل من النافذة.. ويغلب على تشكيل العناصر الصبغة الهندسية والتسطيح وهى صفة لصيقة بالمذهب التكعيبى.. وبالرغم من أن العناصر متشظية إلا أن بيكاسو ربط بينها بمهارة بأن جعلها تتداخل وتتقاطع بخطوط وأشكال.. مثلثات ومستطيلات وأقواس.. وتتجلى عبقرية بيكاسو الكبيرة فى كيفية توزيعه لمساحات الأسود ودرجات الرمادى والأبيض والتى تخلق علاقات تجريدية غاية فى الثراء. اللوحة حبلى بالرموز.. الثور اللا مبالى الذى يعبر عن أسبانيا فرانكو.. حمامة السلام المذبوحة والحصان الجريح والمحارب المهزوم ذو السيف المكسور الذى يعبر عن أسبانيا الممزقة.. الوردة التى تنبت فى نهاية السيف معبرة عن بارقة أمل.. الشخص المذعور الذى يستدعى بذراعيه المرفوعتين لوحه الإعدام لجويا.. والمرأة ذات الشمعة التى تبحث عن الحقيقة.. وربما كان من أكثر الأشكال غموضا هو هذا الوميض الذى يتوج قمة اللوحة والذى يأخذ شكل العين وفى وسطها رسم بيكاسو مكان الحدقة لمبة كهربائية ربما تعبيرا عن الجانب التدميرى للعلم الحديث.. وقد تحدث بيكاسو عن الرموز فى الجورنيكا قائلا.. «ليس على الفنان أن يشرح رموزه وإلا فسيكون من الأفضل له أن يسطرها فى بعض كلمات.. على الجمهور الذى يشاهد لوحاتى أن يترجم الرموز كما يراها.. لو قرأت معانى محددة لبعض الأشياء فى لوحاتى فقد تكون مصيبا تماما.. ولكنها ليست مهمتى أن أفصح عن هذه المعانى.. أى أفكار أو استنتاجات ستصل إليها ستجدنى ضمنتها فى العمل ولكن بالفطرة وباللاوعى لأننى أرسم الأشياء كما تتراءى لى». فى وقت لاحق زار أحد ضباط النازى مرسم بيكاسو ووجد على المنضدة مستنسخا للوحة الجورنيكا فسأل هل فعلت هذه؟ فقال بيكاسو لا أنتم الذين فعلتوها.