كانت الجامعات لفترة غير بعيدة تمثل مؤسسات لتعليم النخبة، بمعنى أنه لم يكن هناك تكافؤ بين النسب الممثلة لطبقات المجتمع داخل المجتمع الطلابى بها، وكان التباين الاجتماعى داخل الحرم الجامعى يمثل نتيجة مباشرة للارتباط القوى بين التحصيل المعرفى والطبقة الاجتماعية؛ فالطلاب الذين ينتمون إلى طبقات اجتماعية عليا غالبًا ما تتوافر لهم ظروف أفضل تساعدهم على تحصيل درجات أعلى فى الاختبارات، ومن ثم تشكيل النسبة الأعلى بين طلاب الجامعات. والواقع أنه لم يكن هناك أى نوع من القلق إزاء ذلك الوضع؛ فقد كان هناك اعتقاد بأن التعليم الجامعى يجب أن يقتصر على أبناء الطبقة العليا، إلا أنه مع بداية الحرب العالمية الثانية تغير الوضع ولم يعد هناك اهتمام بتحديد من الذى يلتحق بالجامعات، بل إن معظم جامعات العالم صارت تسعى إلى اجتذاب أكبر عدد من الطلاب ذوى القدرات العقلية المرتفعة بصرف النظر عن نوعية الطبقة التى ينتمون إليها. وقد أدى الإصلاح التعليمى فى مصر بعد عام 1952 إلى التوسع فى إنشاء الجامعات، وقد ترتب على هذا التوسع تغيير فى التركيب الاجتماعى لطلاب التعليم الجامعى على أساس أن الأماكن التى أضيفت قد استوعبت أعدادًا كبيرة من الطبقات التى لم تكن ممثلة، ولكن التساؤل الرئيس الذى يطرح نفسه هنا يدور حول تحديد الطبقات التى استفادت بالفعل من هذا التوسع. الواقع أن أى طالب أيًا كان مستواه الاجتماعى الاقتصادى يكون لديه طموح للإفادة من مزايا التعليم الجامعى، ولكن تحقيق هذا الطموح يحكمه أمران الأول يتمثل فى القدرة على تحمل تكاليف التعليم فى المرحلة الثانوية والآخر فى القدرة على اجتياز الحواجز الأكاديمية، وعلى ذلك فالالتحاق بأى كلية أيًا كانت السعة المتاحة هو نتاج لعدة عوامل، تشمل: مستوى الطموح، والقدرات العقلية، والأماكن المتاحة. ومن هنا يتضح أن فرص الالتحاق لا تتساوى أمام الطلاب من الطبقات الاجتماعية المختلفة، لأن مستوى الطموح يختلف طبقًا للكلفة والظروف التعليمية التى تتاح للطالب؛ فالطالب الذى ينتمى لأسرة غنية أو ذات مستوى تعليمى مرتفع يكون أكثر دراية بالفوائد التى يمكن أن يحصل عليها فى المستقبل نتيجة لحصوله على تعليم معين مما يجعله أكثر استعدادًا وطموحًا، هذا بالإضافة إلى أن كلفة التعليم لا تمثل له مشكلة إذا ما قورن بزميل له ينتمى لأسرة فقيرة، وهناك قراءات متباينة حول هذا الموضوع. أحد هذه الاتجاهات يرى أن توفير مزيد من الأماكن من الممكن أن يؤدى إلى إتاحة فرص أكثر أمام الطبقات الأقل تمثيلا فى الجامعات، وهذا الرأى يستند إلى أن القدرة العقلية الفطرية ليست مرتبطة بشكل نهائى بالطبقة الاجتماعية، وأن التمثيل المحدود للطبقات التى تقع أسفل السلم الاجتماعى يعود بدرجة كبيرة إلى الظروف التى تحيط بها. وهناك اتجاه آخر يرى أن توفير الأماكن لا يؤدى إلى مزيد من تمثيل الطبقات الدنيا، بل إنه قد يؤدى إلى مزيد من تمثيل الطبقة المتوسطة، وذلك من منطلق أن الظروف المادية والمستوى الثقافى الأفضل للطبقة المتوسطة قد تمكنها من مقاومة أى تغيير مبنى على المساعدة المادية للطبقة الدنيا. وهناك اتجاه ثالث يؤكد على أن توفير المزيد من الأماكن لا يحدث أى تغيير فى التوازن الاجتماعى، من منطلق أن القوة التى تتمتع بها الطبقة الاجتماعية هى التى تمكنها من مقاومة أى تغيير من الممكن أن يؤثر على موقفها بين باقى الطبقات؛ فعلى سبيل المثال لو تم تخصيص منح دراسية لأبناء الطبقة الدنيا بالجامعات الحكومية سوف نجد أن الطبقات الأخرى ستتحول من الجامعات الحكومية إلى الجامعات الخاصة كى تؤكد أنها ذات مكانة معينة فى المجتمع لا يمكن التأثير عليها. وفى ضوء ذلك يمكن القول بأن مظهر العدالة الذى يتسم بتحقيق المساواة يخفى وراءه حقيقة نظام تربوى يرتبط بإعادة إنتاج العلاقات الاقتصادية، كما يمكن القول أيضًا بأن رأس المال الثقافى فى المنزل ونوعية الدروس الخصوصية التى يتلقاها التلميذ تحدد إلى حد كبير مستوى تحصيله الدراسى، وبالتالى الالتحاق بالمراحل الدراسية التالية فى السلم التعليمى. ويشير الواقع الحالى إلى أن معظم طلاب الشهادات فى التعليم قبل الجامعى كانوا قبل جائحة كورونا الحالية لا يذهبون إلى المدارس إلا نادرًا، وكان القائمون على النظام التعليمى يغضون الطرف ويؤكدون من آن إلى آخر أنهم يجتهدون فى دمج التكنولوجيا وتطوير المناهج وطرق التدريس وأساليب الامتحانات والتقويم ورفع مستوى الإدارة، وذلك بغرض تحقيق العدالة بين طلاب تلك المدارس، كما كان أولياء الأمور من جانبهم يمارسون دور الضحايا فيشتكون مرة من تعسف المعلمين مع أبنائهم، وأخرى من طول المناهج، وثالثة من صعوبة الامتحانات وتخلف أساليب التقويم. وفى ظل هذا الوضع ظل الطلاب ذوى الخلفية الاقتصادية الاجتماعية العالية هم الذين يستفيدون بشكل جيد من فرص التعليم، حيث أثبتت بعض الدراسات أن: المخطط التربوى يركز على الجوانب الكمية المطلوبة لتحقيق العدالة الاجتماعية وغالبًا ما لا يهتم بالبنية الاجتماعية والثقافية وعلاقتها بتحقيق تلك العدالة، الأمر الذى يجعل مؤسسات التعليم تكرس إعادة إنتاج التفاوت الطبقى وعدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية وحصر دورها فى خدمة مصالح الطبقة العليا. مستوى المدرسة الثانوية يلعب دورًا مهمًا فى تحديد نوع الكلية التى يلتحق بها الطالب. الأصل الاجتماعى والاقتصادى يلعب دورًا مهما فى تحديد التخصص الذى يلتحق به؛ حيث تجتذب دراسة الطب والصيدلة والهندسة نسبًا أكبر من الطلاب الذين ينتمون إلى مستويات اجتماعية واقتصادية عليا مقارنة بأبناء الأسر التى تنتمى إلى طبقة أقل. الأصل الاجتماعى الاقتصادى للطالب يلعب دورًا مهمًا فى التحاقه بالجامعة لكنه لا يعد مؤشرًا للأداء الأكاديمى للطالب بعد التحاقه. التعليم على امتداد العقد الأخير كان يتم فى مراكز للدروس الخصوصية عملت على تكريس الطبقية فى التعليم؛ لأن نوعية الدرس الخصوصى تتحدد فى ضوء الخلفية الاجتماعية والاقتصادية لولى الأمر فهناك الدروس التى تقدم من خلال سناتر يذهب إليها التلاميذ ويتم التدريس فيها بنظام القطيع، وهناك الدروس التى تقدم فى المنازل لطالب بمفرده أو لمجموعة محدودة من الطلاب، هذا بالإضافة إلى تعدد المدرسين فى المادة وكل ذلك يحدده المستوى الاجتماعى الاقتصادى لولى الأمر. وعندما حدثت جائحة كورونا جلس كل الطلاب فى المنازل وتنحى المستوى الاقتصادى وتبقت القدرات العقلية الفطرية عند الطالب هى المعيار بعد أن أُغلقت المدارس والسناتر وتساوت الرءوس إلى حد كبير، ومن ثم فإننا إذا ضمنا للطلاب هذا العام امتحانات خالية من الغش وتصحيح خال من الفساد فستكون قدرات وطموحات الطالب هى المعيار الجوهرى فى حصوله على مكان فى كلية معينة بعيدًا عن الخلفية الاقتصادية لولى أمره، وسيكون كورونا قد نجح فيما لم ننجح فيه على امتداد عقود مضت من تحقيق العدالة فى الالتحاق بالتعليم الجامعى استنادًا إلى القدرات العقلية وبعيدًا عن الخلفية الاجتماعية والاقتصادية.