الأمر يشبه المعادلة الكيميائية نضيف شيئا لآخر فتخرج تفاعلات جديدة. هذا ما يحدث اليوم فى مصر. توجد متغيرات اجتماعية ومتغيرات اقتصادية وسياسية ينتج عنها ظهور موجات كثيرة من العنف داخل المجتمع. العنف فى أى مكان فى العالم سببه الفقر، هذا ما قاله غاندى. فالفقر ينتج عنه بالضرورة احتياجات إنسانية. الشخص الذى لا يستطيع توفيرها يضطر للاعتداء على الآخرين للحصول على أبسط الحاجات التى يمكن أن يعيش بها، يسرق أو يقتل. نحن نرى اليوم أشخاصا تسرق من أجل موبايل تبيعه أو 10 أو 20 جنيها. الظروف الاقتصادية هى أهم سبب على الإطلاق للعنف فى المجتمع المصرى. مصر كانت دائما دولة فقيرة ولم يكن بها هذا النوع وهذا الكم من العنف؟ الفقر نتج عنه ظهور العشوائيات. مواطنون ليس لديهم القدرة على السكن فى شقة بمليون و2 مليون جنيه، وبالتالى لجأوا للسكن على أطراف المدن فى بيوت هى أقرب إلى العشش 10 أشخاص، وأحيانا أكثر فى غرفة واحدة. لا خدمات ولا مرافق. ازدحام ينتج عنه زنى المحارم وأطفال الشوارع ومتسولون وناس مؤهلة لارتكاب الجرائم منذ الصغر. لم يكن هذا الازدحام الكبير فى عدد السكان. لم يكن هناك هذا الاتساع فى الرقعة العمرانية. زادت نسبة التعليم وأصبح المتعلم لا يساوى شيئا وزادت نسبة البطالة.. بنخرج ناس من الجامعة بلا عمل. لم يكن الأمر كذلك فى السابق. تغير شكل المجتمع وترتب على ذلك تغيير فى السلوك الاجتماعى. ماذا ننتظر من شخص درس سنوات وصرف عليه أهله فى القرى والريف كل ما يملكونه ويفضل «عاطل»؟ لكن الجرائم كلها لا تخرج من رحم العشوائيات؟ معظمها، 90% على الأقل. بالإضافة إلى المخدرات. المخدرات التخليقية انتشرت بين الشباب والعاطلين، وهؤلاء يشكلون طبقة مؤهلة لارتكاب الجريمة أو العنف عند التعامل مع الناس. إلى هذا نضيف الإعلام وهو أخطر نقطة لأنه يكون فكر ووجدان الناس. وإعلام اليوم يتسم بالعنف الشديد. فضائيات بلا ضابط ولا رابط، أقراص مدمجة وإنترنت. أفلام العنف ليست جديدة على المجتمع المصرى، ألم يكن هناك بروسلى وجاكى شان وغيرهما؟ لا لم تكن موجودة بهذه الصورة ولم يكن هناك انتشار واسع لوسائل الإعلام. اليوم فى أى مكان فيه دش معلق، فى القرى والنجوع. هذا جديد على المجتمع المصرى لم يكن الأمر كذلك منذ قبل 10 سنوات. يصاحب ذلك غياب دور المؤسسات الدينية وغياب القوانين. أعتقد أن هناك قصورا تشريعيا فى مواجهة جريمة العنف. أخطر شىء حصل مؤخرا هو حكم المحكمة الدستورية بعدم دستورية قانون البلطجة. ترتب على الحكم الإفراج عن المتهمين المحبوسين فى قضايا البلطجة والقضايا، التى تنظر أمام النيابة ألغيت. والبلطجية أصبحوا فى الشوارع بلا قانون يحاسبهم. لابد أيضا من تشديد العقوبة على حمل السلاح، والسلاح الأبيض أيضا. نحتاج قوانين جديدة وهل وزارة الداخلية تنقصها القوانين؟ نعم، هذا قانون غاية فى الأهمية ومختص بالبلطجة. أتمنى أن يعاد بعد إصلاح ما به من عيوب وعلى البرلمان أن يصلح العوار التشريعى. لابد من وجود قوانين متخصصة لمواجهة مواد جنائية معينة لمساعدة وزارة الداخلية فى مواجهتها. أنتم تقولون فى قانون الطوارئ، لكن معه الاعتقال محدود بمدة معينة ولا يمكن استخدامه فى مجال البلطجة. لو الداخلية اعتقلت 10، 15 شخصا، الإعلام يطلع يقول قبضوا على الناس واستغلوا حالة الطوارئ. نحن نريد قانونا لا علاقة له بالقوانين الاستثنائية لتعالج على الأقل جزءا من هذه المشكلة الخطيرة. فى الجرائم الأخيرة لم تتوافر هذه العوامل التقليدية: لا بلطجة ولا مخدرات ولا حيازة سلاح. العوامل التى تؤدى إلى خلق الجريمة تنتج هذا النوع من الناس ما يشكل صعوبة على رجال الأمن. زمان كان معروف البلطجية والمسجلين خطر بالاسم. اليوم نظرا للظروف الاقتصادية والبطالة زادت أعداد من يمكن أن يرتكب جريمة وزادت البلطجة والابتزاز والتعدى على الناس. وأصبح سلوكا عاديا جدا، وهذا لا يخص الأمن وإنما دور مجتمعى شامل، والأهم من ذلك الشكل السياسى داخل المجتمع. هل تغير شكل الجريمة؟ طبعا أصبحت أكثر عنفا. هل وزارة الداخلية تقوم بدراسة هذا التطور؟ هناك مؤسسات بحثية كثيرة جدا داخل وزارة الداخلية. دورها البحث فى الظواهر المختلفة للجريمة وتقوم بإجراء الدراسات عليها ثم تعرض على الوزير نفسه لاتخاذ القرارات بتشكيل القوات وعددها وتسمح له بعرض احتياجاته المالية فى الموازنة. مثلا جريمة مثل الإرهاب فى الصعيد. على أن أوجه قواتى بشدة لهذه المناطق لمواجهته. وهى نفس الدراسات التى تعرض فى تقرير الحالة الأمنية؟ نعم. تقرير الداخلية السنوى ولماذا توقف التقرير منذ تولى حبيب العادلى الوزارة؟ التقرير لم يتوقف على الإطلاق. لم يعد علنيا على الأقل. كانت الصحافة ومراكز الأبحاث والمنظمات تستطيع الحصول على نسخة منه. ماذا حدث؟ البيانات كلها موجودة فى النيابة. ولا يوجد مركز بحثى لا يحصل على التقرير. مجلسا الشعب والشورى والجهات الأمنية الأخرى تحصل عليه. لكن حدثت استخدامات غير جيدة لبيانات التقرير فعلا، بقصد الإساءة إلى مصر فى الخارج. يأخذون الكلام ويعملون منه قصصا. ماذا تقصد باستخدامات غير جيدة؟ مثل جرائم الاغتصاب والأحداث بيعملوا منها قصص كبيرة علينا. نحن مستهدفون من مؤسسات بحثية معينة لصاح إسرائيل ومؤسسات تريد الإساءة لسمعة مصر داخل أمريكا على وجه التحديد وبعض الدول الأوروبية. إذن توقف التقرير عن التداول منذ عام 1997؟ لا أعلم بالضبط. ليس لدىّ تاريخ محدد. البعض يتهم وزارة الداخلية نفسها بأنها تساعد على انتشار البلطجة؟ كيف؟ أى أنها تلجأ إلى البلطجية أحيانا فى المظاهرات والانتخابات والضباط داخل الأقسام يلجأون إليهم للحصول على معلومات. فى أى مكان فى العالم، ضابط الأمن عمله يعتمد على المعلومة. إحدى أدوات الحصول على المعلومة هى المواطن. شاهد على حادثة أو جريمة بشكل عارض. لكن أيضا أحتاج إلى مرشدين متخصصين لأن أحيانا الناس لا تدلى بالمعلومة لرجل الأمن. هذا المصدر له دور ويتقاضى عنه أجرا أو مكافأة. هذه هى عيونى خارج القسم وإلا كيف أصل إلى نتائج لأعرف من يسرق من بيبلطج من يتاجر فى المخدرات؟. المرشد الذى يخرج عن حدوده، أول واحد يمنعه هو ضابط المباحث نفسه لأنه يسىء إليه. ممكن يوم استخدمه للوصول على نتيجة واليوم التالى أحبسه. لا أريد باستمرار أن نحور القصة ونقول إن الأمن يستخدم البلطجية. أنا عندى عجز ضخم للغاية فى قوات وزارة الداخلية. كل ما تمتلكه الوزارة 35 ألف ضابط على 80 مليون مواطن. وعصب العمل الأمنى هو الضابط. لا يمكن ضبط قضية أو إجراء تفتيش بدون الضابط، حتى الكامين. هو المؤثر الحقيقى فى العمل الأمنى. أعداد رجال الأمن لديكم أمناء ومندوبون وقوات الأمن المركزى بأعداد كبيرة؟ لا يوجد لدىّ أعداد عن الأمناء وضباط الصف. لكن فعلا عندنا عدد ضخم جدا من قوات الأمن المركزى. إنما ما قيمة هذا العدد؟ دول مجموعة من المجندين يقضون 3 سنوات وليس غبنا للجهاز، انتماءاتهم ليست للداخلية. ويقضون قرابة سنة لتعليمه ومحو أميته وتدريبه. يعمل معى السنة الثانية والسنة الثالثة يبدأ يفكر فيما سيفعله بعد ذلك، لأنه يعول أسرة ويعد باليوم متى يرحل. مجند الأمن المركزى يستخدم فى أعمال الشغب، فى قوات الضبط أو فى مواجهة الإرهاب، حراسة السفارات أو البنوك. فيه قصور عددى طبعا. كلية الشرطة القديمة كانت تخرج 260 فردا فقط. لكن الأكاديمية الجديدة تخرج اليوم 1600 ضابط، هو المشروع الذى بدأه حسن الألفى وأكمله حبيب العادلى. لكى أرفع هذا العدد محتاج موازنة كبيرة من الدولة ودعم. لو لم نكن بحاجة لهم ما تكلفنا هذه التكلفة الضخمة للأكاديمية. هل المشكلة فى عدم توافر الإمكانات البشرية أم المادية؟ الداخلية طلبت زيادة الميزانية بقيمة 121 مليون جنيه وعرضت هذه الاحتياجات على البرلمان. لكن حصل كلام مؤسف. يقولون الداخلية طلبت 121 مليون جنيه لاستيراد أدوات تعذيب. هى أدوات التعذيب محتاجة استيراد؟ بالإضافة لذلك أكاديمية الشرطة ملزمة دوليا بتدريب الشرطة الفلسطينية وقوات الشرطة العراقية وتوجد اتفاقات مفتوحة مع دول أفريقية لتدريب وتخريج ضباط. هذه مسائل مكلفة للغاية. دلوقتى البعض يشتكى ويقول بيضربوا المتهمين من أجل الاعتراف. لتغيير هذا المفهوم فى إطار حقوق الإنسان لازم كمان أغير الأدوات المستخدمة. بمعنى توفير أدوات التقنية الحديثة فى مسرح الجريمة والمعمل الجنائى والطب الشرعى. هذا يحتاج مليارات وليست ملايين. دور الإعلام كيف ترى التعامل الإعلامى مع الجرائم الأخيرة.. هل تقلقك هذه التغطية المكثفة؟ دور الإعلام أن ينقل للناس ما حصل فعلا. الجريمة والمتهم والحكم، دور الإعلام هنا مطلوب. لكن عملية التزايد الزائد عن اللزوم والتغطية الإعلامية لتشكيل رأى عام فى منتهى الخطورة ويؤثر على من ينظر القضية. مثلا قضية مثل هبة ونادين وإساءة الإعلام لهما ثم يتضح أن الكلام كله كذب. بعد أن أساءت للأسرة هذه الإساءة البالغة كيف يمكن إصلاحها؟ فلا داعى للتوسع الزائد فى الجرائم لمجرد زيادة التوزيع. لذلك أنا كنت فى غاية السعادة عندما حظر النشر فى قضية هشام طلعت مصطفى فقد بدأت تنسج أساطير وقصص. الإعلام له دور لابد أن يعيه. هل تتوقع أن تسوء الأمور فى المستقبل؟ نحن نمر حاليا بمرحلة تغيير اقتصادى وسياسى يترتب عليه تغيير اجتماعى وثقافى. هذه تفاعلات تحدث فى كل مجتمع. أعتقد أن الغد أفضل. وهل الشباب فى خطر؟ اليوم الجامعات لا يوجد بها أى مكان لممارسة العمل السياسى للشباب. فى حين أن العمل الحزبى داخل الجامعة يمتص طاقات الشباب. لأن الشباب لو أنه غير مشغول بشىء يفكر على طول فى الخروج عن النصوص الموجودة ونجد انحرافات ومخدرات وجماعات سلفية وعنفا. النشاط السياسى فى الجامعة يعتبر على الأقل أحد المبادئ الرئيسية لخلق حياة ديمقراطية داخل المجتمع. نحن بحاجة فعلا إلى انفراجة فى المجال الديمقراطى وإلى وجود أحزاب قوية. لكن هذا جزء غايب، وبالتالى المجتمع منفرط عقده لعدم وجود التمثيل الحقيقى للناس.